العلاقة الإنسانية بين البشر ليست معطى مباشرا في كثير من الثقافات بل هي منجز يحتاج إلى عمل وجهد. ما أعني هنا بالعلاقة الإنسانية هي تلك العلاقة التي تبدأ بإدراك حرية كل إنسان واستقلاليته وحقه في الاختيار والقرار. في المقابل العلاقات اللاإنسانية هي علاقات تنطلق من منطق التبعية أو السيطرة أو الغلبة. الاعتراف بحرية البشر هو الذي يجعلهم أعضاء كاملي العضوية في العقد الاجتماعي الذي يبنى عليه المجتمع. في النهاية لا معنى لإجراء عقد مع شخص لا يملك الحرية ولا الإرادة الذاتية. في ثقافات كثيرة تبدأ العلاقة بين الأفراد لأهداف تتجاوزهم وتطمسهم. الجماعة الأيديولوجية المنظمة مثلا تنطلق العلاقات فيها من أهداف كبرى للجماعة تتم من خلال هؤلاء الأفراد. الأفراد هنا هم آلات لتحقيق هذه الأهداف والعلاقات التي تتأسس بينهم تنطلق من هذا البعد تحديدا. في هذه الصورة يتوارى الأفراد ككائنات حرة عن الصورة وتحضر الجماعة وأيدلوجيتها وتسيطر على المشهد. إذن كما قلنا سابقا العلاقة الإنسانية أو كما لدى بوبر (الأنا-الآخر) ليست معطى منجزا وفي هذه المقالة طريقة ربما تقود لتحقيقها.
الانفتاح على الآداب والعلوم الإنسانية هو مخرج من علاقات الاستبداد وفرصة للوصول إلى علاقة إنسانية بين المعلمة وطالباتها. أعني بالآداب والعلوم الإنسانية، كل ما أنتجته البشرية من فنون وعلوم.. الشعر والرواية والقصة والفلسفة والعلوم الإنسانية والموسيقى وفلسفات التفكير العلمي كلها مساحات هائلة يمكن أن يلجأ لها المعلم وطلابه للبحث عن إمكان جديد وعن صورة أخرى تعيد الأمل وتجعله ممكنا. أسوأ ما يمر به الأفراد في بيئات الاستبداد أن يعتقدوا أن العلاقات التي تقيّدهم حتمية ولا يمكن تغييرها. الآداب والفنون والعلوم الإنسانية تقدم أمثلة هائلة على هذه الإمكانية وعلى هذا الأمل. هذه الآداب والعلوم تنطق وبحب وعطف لقارئها لتقول: لست وحدك وهناك أمل.
للتعليم سطوة هائلة لدرجة أن لديه القدرة على تطبيع غير الطبيعي. أي أن يشعر المعلمات والطالبات والمعلمون والطلاب أنهم في علاقات طبيعية رغم أنها علاقات لا إنسانية. التعليم قادر على أن يقدم العلاقة التي لا تحترم حريات الأفراد وتقوم على الانقياد والخضوع على أنها علاقات طبيعية وليست مستنكرة. الآداب الإنسانية، في المقابل، قادرة على قلب الصورة وكشف عيوبها. هي قادرة على نقض عمل التعليم التقليدي بالكامل لتكشف أن العلاقات التي لا تحترم حرية الإنسان هي علاقات خاطئة ومؤلمة وأن هناك بديلا أجمل وأفضل. الفنون والآداب هنا تبدأ في مساعدة الجميع على رؤية مدرستهم من جديد. لديهم الآن نموذج آخر، لديهم تجارب بشر آخرين عاشوا في ظروف ربما مشابهة وربما مختلفة ولكنها تقدم لهم باستمرار إمكان البديل والمختلف.
الفنون والآداب والعلوم الإنسانية كفيلة أيضا بتقديم لغة جديدة، مفردات جديدة تحمل في داخلها صورا مختلفة عن الإنسان والحياة. من آثار التعليم المثالي أو الأيديولوجي أو الأداتي أن لغته محدودة وضيقة جدا. الجميع بسبب هذه اللغة يدورون في نطاق محدود للغاية. في التعليم المثالي والأيديولوجي رقابة حادة على اللغة والمفردات. هناك دائما قوائم بالكلمات المحرمة والممنوعة. التأمل في هذه القوائم يظهر أن هذه الرقابة ليست موجهة لحفظ حقوق الأفراد وحمايتهم من العنف والأذى بل هي مخصصة تحديدا لحماية الأيديولوجيا المسيطرة والطبقة التي توجه التعليم لخدمتها تحديدا. الفنون والآداب هي رافد للغة جديدة ومختلفة. قد تجد المعلمة وطالباتها أن هذه اللغة أقرب لهم من لغة المدرسة التقليدية. هذه اللغة الجديدة تجعلهم أكثر قدرة عن التعبير عن الحب والاحترام والتقدير. لغة راقية تنضح بالاحترام والجمال. في لغة الآداب الإنسانية عطر كفيل بجعل الصف أو المدرسة مكانا منعشا ودافعا للحياة.
الآداب والفنون والعلوم الإنسانية أيضا مصدر مذهل لمهارات التواصل. التعليم التقليدي يحد بشكل هائل من مهارات التواصل عند الناس باعتبار أنه يحد العلاقة في صيغ لا تسمح إلا بشكل واحد من التفاعل. علاقة القائد والتابع، المصمم والمنفّذ، المدرب والمتدرب علاقات ضيقة ومحدودة ولا تسمح بتواصل حقيقي. الآداب والفنون مليئة بأشكال مختلفة من التواصل والمهارات. مليئة بأنماط مختلفة وأدوار مختلفة يتبادلها البشر، من هنا تنبثق إمكانية علاقة الصداقة بين المعلمة وطالبتها، من هنا تنبثق ألوان مختلفة للمحبة والاحترام. من هنا أيضا يمكن أن يدرك المعلم أنه في علاقته مع طلابه أنه طالب أيضا يتعلم منهم الكثير وهم يدركون نوعا من العلاقة والتواصل يتيح لهم تقديم خبراتهم في الحياة على أنها خبرات حقيقية وقيّمة جدا وكفيلة بفتح قنوات هائلة للتواصل.
حين تقرأ المعلمة وطالباتها عملا إنسانيا ما فإنهن يشتركن في خبرة جديدة مفارقة للخبرة التي يصممها لهن نظام التعليم. هذه الرواية أو القصة أو الكتاب المعرفي هي عالم جديد يستطيع المعلم وطلابه فيه مغادرة شروط المدرسة إلى عالم أكثر اتساعا وصدقا. الأعمال الإنسانية شريك صادق للإنسان فهي تجعل آخرين كثرا في جانبه، آخرين مرّوا بتجارب مختلفة تجعل تجربته الخاصة تأخذ سياقا وشراكة مع ملايين من البشر. الأدب الإنساني كفيل بكسر العزلة التي يحاول التعليم المثالي والأيديولوجي والأداتي فرضها على الجميع. القراءة هنا فعل ذاتي يعيد للفرد قراره وحقه في الاختيار. مع كل حرف تتحقق إرادة القراءة والفعل. الانفتاح على الآداب يحمل سخرية هائلة من قيود التعليم اللاإنساني وانتصار لذيذ للحرية والخيار الفردي. في الغالب ستكون المدرسة أرضا خرابا فارغة من العلوم والآداب الإنسانية متخمة بما هو ضد ذلك. ولكن الجميل والمبهج حقا أن الوصول لهذه الأعمال أصبح أسهل بكثير وأيسر للغالبية. لنتخيل التغيّر الذي سيحدث لجماعة تقرأ الأيام لطه حسين أو ديوانا لمحمد العلي أو رواية الأخوة كرامازوف لديستيوفسكي أو يشاهدون فيلم الشك الأميركي أو يسمعون موسيقى يابانية أو ينصتون لحكاية أفريقية.