بعد وفاة الشاعر علي آل عمر عسيري، رثاه الشاعر أحمد عسيري بقصيدة تتكون من ثمانية مقاطع، وهي تحوي من المعاني ما كان بين الشاعر والمرثي من أسباب المودة والصداقة، برغم ما عرف عنهما من علامات تنافس الأقران، وأنه كانت تدور بينهما حوارات وخلافات يتوهمها البعض متنافية مع المودة، بينما هي نوع من تحقق الاختلاف البدهي في الآراء والتوجهات، وهو ما عبر عنه أحمد عسيري نفسه، في مقال كتبه بعد خمس سنوات من رحيل آل عمر، حيث يقول: "كان يؤنسني بخصامه وعراكه الباسق، حتى حدود القطيعة والجفاء، ولكنه يملك الفائض من القدرة على ردم الفجوات".
وعند المقارنة بين المقالة التأبينية والقصيدة الرثائية، يظهر فارق نوعي واضح، فالقصيدة لا تشير إلى الاختلاف أبدا، والمقالة تقر به وتبرره، بل وتعد مآلاته حسنة من حسنات الراحل الذي كان يحسن ردم الفجوات، مما يحيل على الفروق الجوهرية بين النثر الذي يستقي مادته من العقل، وبين الشعر الذي يذهب خلف العاطفة إلى المدى البعيد، فضلا عن كون القصيدة كانت بعيد وفاة المرثي، ولذا كانت مقرونة بالحزن والألم، دون غيرهما من المشاعر، ودون أن تحوي غير الشعور؛ لأنه لا مكان فيها للأحكام والرؤى المتعلقة بشخصية المرثي، أما المقالة فقد كتبت بعد وفاته بخمسة أعوام، ولذا جاءت بعد سنوات من التأمل والتفكير، ولم تكن لمعة إبداعية ناجمة عن لحظة شعورية مؤلمة.
ومهما يكن من أمر، فإن الفارق بين القصيدة والمقال لم يكن واسعا بالقدر الذي يجعلهما متناقضين، فقد حوت القصيدة تصويرا لتقوى المرثي وورعه، وهو المعنى الذي تضمنته المقالة أيضا، من خلال قول يرويه أحمد عسيري عن آل عمر، ونصه: "لوجربت يا أحمد صلاة التهجد في السحر لأحسست بعروق الروح ورعشة الضوء، وهي تنطلق من داخلك كجواد الصبح باحثة عن الطهر والفرادي المخضلة كدموع الأبرياء".
إن هذه المقارنة تثبت أن العاطفة غالبة على قصيدة الرثاء، وأنها لا تصدر إلا عن شعور حقيقي، ويزداد الألم حين يكون المفقود قرينا مسايرا لمراحل الحياة جميعها، منذ سنوات الدراسة، إلى الكتابة والأدب، حتى الافتراق، وهي السمة التي توصف بها العلاقة بين أحمد عسيري، وعلي آل عمر. الذي يقول في رثائيته:
أسْنَدْتُ ظَهريَ للجِدارْ
وانهلَّ ماءُ الحُزنِ
واشتعلَ الحنينُ
وشهْقةُ الطِّينِ المُضَرَّجِ بالبكاءْ
هذا المَساءْ
والذّاهِلُون على كَثيبِ الرَّمْلِ
والجَسد المُمَدَّدِ في العَراءْ
واللِّحْية البَيْضَاءِ تَقْطرُ
بِالطَّهارَةِ والنَّقاءْ
ثم يمضي مصورا شخصية المرثي، ومستمدا الصور الشعرية من شخصية الراحل التي تتسم بالإصرار والعزم، وكانت المكابدة والعنت سمتين ملازمتين لحياته منذ بدئها حتى وفاته، مما يعني أنها شخصية خصبة، تفتح الباب واسعا على القول الشعري، الذي يغوص في أعماق النفس البشرية، وهو ـ هنا ـ غوص العارف بما تكتنزه الشخصية من صفات يعلمها الشاعر، وهو قرينه ورفيق عمره.