نحن عندما نتحدث عن الدراسات أو التحاليل التي تقدمها مؤسسات مرموقة في الغرب عما يجري في وطننا العربي، فإن ذلك يعني أنها تتحدث عن أمور تمسنا مباشرة وحسب المثل القائل: "شدة القرب حجا "، فقد تكون هناك سلبيات حولنا لا ندركها، ومن هنا يجب التعمق في تلك الدراسات، بحيث لا يعمينا التعصب لشن الهجمات عليها فقط لأنها تقول شيئاً لا نحبه أو لا نقبل به.. وعنوان المقال هو عنوان لوثيقة أعدها خبيران يعملان في مؤسسات مرموقة، هما حسين الأغا من جامعة إكسفورد، وروبرت مالي الذي يشغل مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "مجموعة الأزمات الدولية". "Crisis Group International". والوثيقة تأتي في سياق دراسات وتحاليل يقوم بها الغرب استعرضت بعضها هنا في مقالات سابقة.. وثيقة الأغا ومالي التي بين أيدينا تقول في أول جملة فيها: "إن الظلام ينزل إلى العالم العربي. ضياع وموت ودمار من أجل حياة أفضل.. متنافسون خارجيون يتنافسون على النفوذ ويصفون حساباتهم.. المظاهرات السلمية والقيم العالية التي بدأت بها التظاهرات أصبحت ذكريات بعيدة.. التنافس على السلطة والقيم العالية التي تلازم الاقتتال.. ورؤى الانتخابات التي طرحت في الاحتفالات أصبحت في هامش الشعور.. والبرنامج المنظم الوحيد ديني مستوحى من الماضي.. التدافع على السلطة يتم دون قواعد واضحة أو قيم أو هدف نهائي.. وكل ذلك لن يتوقف بتغيير نظام..التاريخ لا يتقدم إلى الأمام.. إنه ينزلق جانباً". ثم تمضي الوثيقة في القول: في الثورات غير الغرب مواقفه.. في زمن الأنظمة السابقة كان ينظر إلى الإخوان المسلمين كمتطرفين.. اليوم يقترب منهم وينظر إليهم كمعتدلين وعمليين.. والسلفيون الذين كانوا يكرهون السياسة يسعون الآن لكسب الانتخابات.. في الثورات نرى تحالفات ضعيفة.. ونظرة إيجابية من قبل الأنظمة الدينية للعلمانيين.. والأنظمة التي كانت تعرف بالقمع الآن تسعى للديموقراطية وتسوق لها.. ومعادلة غريبة أظهرتها الثورات.. فنرى أن أميركا تتحالف مع العراق المتحالف مع "غريمها" إيران التي تدعم النظام السوري ضد الثوار الذين تساعدهم أميركا على إسقاطه.. معادلات غريبة تظهرها ساحات الربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط.. وتمضي الوثيقة الطويلة في القول إن إيران تعارض الأنظمة العربية، وضمن سياساتها في هذه المعارضة تحاول الاقتراب من الإسلاميين الذين يعارضون هذه الأنظمة لدعمهم ضدها.. الإسلاميون يقبلون هذا الدعم لكنهم بمجرد أن ينجحوا يعودون لطمأنة حلفائهم في الأنظمة العربية.. وقد ينصبون العداء لإيران.. وتحدث التقرير عما سماه "لعبة الكراسي" الموسيقية Game of musical chairs. ففي مصر مثلا يقف السلفيون موقفا وقفه يوماً ما الإخوان المسلمون.. والإخوان المسلمون يلعبون دورا لعبه يوماً ما نظام مبارك.. وفي فلسطين تعد حماس الجديدة هي الجهاد الإسلامي التي تطلق صواريخ لتخرج الحكام في غزة.. وحماس التي تعد منظمة فتح الجديدة تطالب أن تكون هي حركة التحرير.. وفتح تحولت إلى نسخة من العرب "الأتوقراط" التي كانت يوما ما تحارب بشدة.. ويتساءل التقرير: كم يبعد اليوم الذي يقدم فيه السلفيون أنفسهم كبديل مفضل عن الجهاديين؟ وفي سورية تنحو الأمور منحى الصراع الطائفي بالغ السوء، وأصبحت البلاد في طولها وعرضها ساحات معارك لخارجيين.. والمشاركون في المعارضة هم خليط من الإخوان المسلمين والسلفيين والمعارضين بشكل سلمي والمتطرفين والأكراد وعناصر منشقين من الجيش.. وبينهم وبين النظام حروب ضارية شديدة القبح لا تراعي (أي جانب إنساني في أي نوع من أنواع البشر) رغبة في الوصول إلى نصر..

وينظر إلى المعركة في سورية على أنها معركة العراق؛ حيث انتصار السنة في سورية سيساعد على انتصار السنة في العراق وتقهقر الشيعة في بغداد.. وبالتالي الحد من نفوذ إيران.. وتمضي الوثيقة في وصف تحليل الوضع في سورية بالقول إنه عندما ينجح الثوار في الوصول إلى نصر سيعقبه نصر في الأردن ولبنان لضعف نظامه.. وذلك بسبب قرب الإسلاميين والسلفيين من المعارضة السورية منهم إلى المسيحيين والشيعة في لبنان..

وفي تونس، هناك عدم ثقة بين الإسلاميين والعلمانيين، وفي اليمن الرئيس خارج السلطة لكنه ليس خارج المسرح.. وفيما يتعلق بمصر تطرح الوثيقة الأسئلة التالية: نشطاء خرجوا لساحة التحرير، لكن كيف تفكر الملايين القابعة في المنازل؟ هل سعدوا بذهاب مبارك أم تألموا بصمت لرحيله؟ كيف يشعر المصريون بالحالة الحالية غير المستقرة وانهيار الاقتصاد والتوجهات السياسية غير المعروفة الاتجاه؟ وترى الوثيقة أن نسبة المصوتين من الشعب المصري هي 50% فقط، نصف هذه النسبة أعطى صوته لعضو من النظام السابق.. كيف تفسر هذه الحقائق؟ وتركيا التي لم يكن في سجلها مشاكل مع جيرانها أصبحت لها معهم مشاكل.. فقد أبعدت إيران وأغضبت العراق وتشاجرت مع إسرائيل ودخلت افتراضياً في حرب مع سورية، وأصبح الأكراد حلفاء أنقرة بالرغم من شن تركيا حرباً على أكرادها.. وبالرغم من أن سياستها في العراق وسورية تشجع توجهات الانفصاليين..

وخلاصة القول؛ أن هذه الوثيقة طويلة وفيها حقائق كثيرة نختلف مع قليل جدًا منها، لكنها في مجملها تحلل الثورات بما فيها من سلبيات ومتناقضات وتوجهات خفية ومسارح لمتنفذين خارجيين يستغلونها لتنفيذ سياساتهم.. وترى أن هذه الثورات لا تمثل الغالبية من الشعوب، لكن تلك الغالبية لا تستطيع التعبير عن مواقفها فتقبع في منازلها تراقب الوضع.. وهذا لا يعني أن الأنظمة القائمة هي الأفضل بحالاتها الراهنة، لكن قد تكون الأفضل مع الإصلاحات مما تشهده الثورات من تقتيل ومتناقضات ومسارح للاعبين خارجيين ينفذون سياساتهم في تلك الدول، مستغلين حكامها الجدد للدعم وقلة خبرتهم في إدارة الدول.. وتتساءل الوثيقة في النهاية: هل كان القرن الماضي انحرافا ضالا عن مسار إسلام الدول العربية الموروث؟ وهل تعد إعادة ولادة "إسلامية اليوم" مراجعة شاذة وسريعة لماض مهجور؟ وهل يعد كل ذلك "تحويلة" في طريق أم طريق طبيعي؟

الوثيقة تستحق التعمق بموضوعية ودون تعصب فيما طرحته من رؤى وتحليل، خصوصاً أنها كتبت من قبل خبراء، فقد يكون في ذلك تجنيب أوطاننا ما لا نرغبه بما نحدده من مسارات يكون فيها مصالح للأوطان والمواطنين والقادة على حدٍ سواء.. اللهم ألهمنا الحكمة جميعاً وجنب أوطاننا الشرور.