"أريد لقاء فارس بن شويل، ووليد السناني. هذان الاسمان، لو أكرمتني سعادة العقيد، بأن ألتقيهما؛ سأكون ممتناً لك". فاجأت بهذا الطلب مدير سجن الحاير، وأنا أدلف في عتبات ذلك السجن.
ردود الأفعال العاتية –المنصفة والقادحة- على مقالتي الفارطة عن جولتي بسجن ذهبان، توقعتها، وقد سربلت معظمها الظنون المستريبة التي نالت من كاتب السطور، وأقسمت بالله تعالى قبلاً، وأكرّر قسمي إنني لست بالبائع قلمي لأحد، وإنّ ما أقوله سيسألني ربّي عزّ وجلّ عنه، عندما لا ينفعني مال ولا بنون، وأعرف أنّ أعيناً مختلفة ستقرأ –أخرى- هذه السطور، بعضها سملها الهوى والتعصّب، هم الذين عمّموا وصفي لغرفة الخلوات الشرعية في سجن ذهبان بأنها تضاهي الفنادق الكبرى؛ على كل السجن كاملاً، زوراً وتزييفاً منهم، وهذه الفئة، لست بالحريص عليها أبداً، فهؤلاء مهما قدّمت لهم الحقائق، هم أصحاب هوى، يضيع وقتك معهم بلا طائل.
ووالله ثلاثاً؛ إنني مع تلكم الأمهات التي تهطل دمعاتهن السخينة على فلذات أكبادهن الموقوفين، ومع أنين الأخوات المكلومات في إخوانهن الشباب، ومع أولئكم الكهول المفجوعين بأولادهم، وأدعو الله تعالى أن يوفق سمو وزير الداخلية الجديد الأمير محمد بن نايف بإنهاء هذا الملف الشائك، وأدعوه لحسم قضية الذين لم يحاكموا من الموقوفين بأسرع وقت؛ وهو الأمير الحازم القادر على ذلك، ولكن بعقلانية أمنية، وبعيداً عن عواطفنا، إذ رأينا حادثة الأسبوع الماضي للإرهابيين، وكيف أنّ معظم عناصرها ممن أفرج عنهم مؤخراً، فأمن الوطن خط أحمر.
سأدلف مباشرة إلى لقائي بأحد أخطر منظّري فكر القاعدة في السعودية، وهو فارس بن شويل الزهراني، مؤلف كتاب (الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث)، وكنت أتابع بدقة ما يكتبه أبو جندل الأزدي –هذا لقبه الشهير- في الساحات السياسية قبل سنوات طويلة، هو كاتبٌ فذّ، يمتلك ناصية القلم، وأخبرته بإعجابي حال رؤيته، وتبسّم كثيراً لذلك، وتخيلته وأنا أقرأ له بتلك السنوات؛ رجلاً بديناً وعملاقاً، ولطالما نتصور في أخيلتنا وجوه وأشكال من نسمع عنهم، ونفاجأ تماماً بأنهم غير ما تصوّرناهم به، وفارس أحد هؤلاء، إذ كان شاباً نحيلاً في الثلاثينات من عمره –هكذا بدا لي- وعرفني الرجل من خلال كتاباتي وظهوري الفضائي، وجلسنا القرفصاء في زنزانته، وتربّعنا حيناً، هو، ومدير السجن، وضابطاً كان مرافقي من مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة، وسألت فارساً بصدق عن معاملة السجن له، وهل يتعرض لمضايقة أو تعذيب. الرجل قال بأنه طلب كتباً لم تصله للآن، وأنه راضٍ تماماً عن معاملة إدارة السجن له حالياً، ولا يريد سوى تلك الكتب التي طلب، ولا يود الحديث عما مضى، وما سوى ذلك فهو في حال طيبة، ومتألم مما حصل لوالدته وأهله –من وجهة نظره- مؤخراً، وردّ عليه مدير السجن بأن الكتب التي طلبها غير متوفرة في المكتبة التي يتعاملون بها، وأن بقيتها وصلته، وعلى حساب السجن، وأنها في الطريق إليه بعد أن طلبوها من مكتبة أخرى، ووقتما سألته: هل جلست يا أخي فارس مع علماء المناصحة، أجابني بالنفي التام، وقلت له: طالب علم مثلك، حقيقٌ وواجبٌ عليه أن يبحث عن الحقّ، ولا يستنكف طلبه، فكيف يا أخي فارس تحجم عن لقاء هؤلاء العلماء؟ أجابني: ثمة إشكالان في المسألة جعلاني أرفض تماماً لقاء جماعة المناصحة هؤلاء، أولاً: اسمها، فالمناصحة يعني ابتداء أني مخطئ، وأنا لا أقرّ بذلك، والثانية، هم يريدون أن آتي لمكتبهم، وهذا يفقدني المساواة، فأكون في منزلة دنيا، وهم في فوقية على مثلي، وأنا لا أقل علماً عنهم، إن لم أفقهم!!. قلت له: وماذا لو أتوك للمحاورة لا المناصحة، وجلسوا معك هنا في غرفتك مثلنا الآن، لا المكتب، هل توافق؟ فأطرق هنيهة، وأجاب: نعم، أقبل.
ليس الشاهد هنا محاورتي مع فارس، وقبوله الجلوس مع العلماء بعد ممانعة تامة. الشاهد أن وجهَي الضابطين اللذين كانا معي تهلّلا، وأقسم بالله العظيم، إنني شعرت بسعادتهما البالغة التي طفرت في ملامحهما، فالرجل كان رافضاً مذ إيقافه من سنوات لقاء العلماء، ووقتما سمعا بموافقته، فرحا جداً بذلك، هذا الفرح الذي جعلني أوجّه تحية كبيرة لهذه الروح في قيادات تلك السجون، التي تروم في غالبها الإصلاح –بحسب تجربتي ورؤيتي- وتعديل الفكر المتطرف، لا الانتقام أو التشفي أو التعذيب.
أخبرني مدير السجن وقتما رأى حفاوتي وسعادتي بموقفه وزميله، بأنهم يتيحون في السجون لهؤلاء النزلاء التعليم عن بُعد، والتحق بالجامعات كثيرٌ من هؤلاء الشباب، وأنهم يقومون بشراء أمهات الكتب –بعضها باهظ الثمن- ليوفروها لهم، ويصرفون مساعدات مالية شهرية لذويهم، وتفتح لهم حسابات خاصة في البنوك، تصل لأهاليهم وأبنائهم، ويقومون بسداد إيجارات منازل زوجاتهم، أو أهاليهم، وعند الأعياد يقومون بشراء هدايا لا تقل عن خمسة آلاف ليقدمها النزيل لأبنائه وأهله، وإن كان ثمة عرس أو فرح، يتيحون لكثير منهم الزيارة، ويعطوهم عشرة آلاف ريال ليقدمها كرفد منه شخصياً، ولا يقتصر الأمر على المساجين والموقوفين السعوديين، بل يشمل حتى غير السعوديين من الجنسيات الأخرى التي أربت على خمس وأربعين جنسية، فضلاً عن وحدة طبية عالية التجهيزات، بها معظم التخصصات الطبية، يديرها استشاريون متعاقدون ذوو سمعة كبيرة في المجال الصحي.
خرجت من سجن الحاير، وأنا مؤمن بيقينية مطلقة بأنّ المعاملة التي تقدمها الدولة بتلك السجون في العموم؛ هي معاملة أب لأبنائه، أكثر منها معاملة حاكم ومحكوم، أو سجين ومأمور سجن، وأجزم -بما سمعت وقرأت- أن ثمة أخطاء تقع، وهناك تصرفات من بعض الأمنيين في التحقيق، بها بعض التجاوزات، لكنها تبقى في ظل التصرّف الشخصي الذي لا يمثل الدولة كمنهج وأساس في تعاملهم مع السجناء، وأنا أدينها هنا، ولا أقبل بها، وأطالب بمحاسبة المسؤول إن ثبت عليه ذلك، ولكن في المقابل يذهب الإنسان ربما لأبعد من ذلك، ويتفهم بعض الانتهاكات المحدودة مع الخطرين أمنياً، وأكرر الخطرين أمنياً، في مقابل أمن وطن يشملنا جميعاً، إذ هؤلاء بفكر منحرف جداً، ومستعدون لتفجير أنفسهم والانتحار، طبقاً لرؤيتهم الفكرية المنغلقة، التي ترى بأننا كفرة، مستباحو الدماء والأموال والأعراض.
سألت بعض المسؤولين هناك: "ولكن ثمة شبابا، وهم ليسوا بالقلة، موقوفين من فترات زمنية طويلة، ولا يحملون هذا الفكر التكفيري الخطير، ومن الظلم البيّن بقاؤهم هكذا بدون محاكمة"، أجابوني: بأن كثيراً منهم أحيلوا للقضاء، بعد استكمال أوراقهم وملفاتهم، ومن لم تثبت تهمته لدى القضاء، أفرج عنه، وصُرفت له تعويضات مادية، (ألف ريال) عن كل يوم، وبعضهم اكتفيَ معهم بالمدة التي قضوها، والبقية، ما زالت قضيتهم مفتوحة لم تحلّ، ولا نملك الإفراج عنهم حتى تكتمل ملفاتهم، لأن القضاء أصلاً لا يقبلها، كونها متعلقة بأشخاص آخرين، خصوصاً أولئك المرتبطين بخلايا واسعة، لم يُقبض بعد على المرتبطين بهم، أو أن القضاء أصلاً هو من يطلب التحفظ عليهم، وأنا هنا أنقل ما سمعت من إجابة من المسؤولين.
سأختم بالتأكيد على حقوق هؤلاء الموقوفين، وحقّ كل واحد منهم في محاكمات عادلة، وإنني شخصياً في صفّ من لم يتورط بحمل السلاح، وبالتأكيد ما رأيته في سجن الحاير يُنبئ عن توجّه صادق لدى الدولة بالإسراع في الإفراج عن هؤلاء الأبناء بعد تأهيلهم فكرياً، ولكن تبقى مهمة أمن الوطن فوق أي اعتبار، وهو يا أحبة ما أتمنى أن تستوعبوه، فتنظيم القاعدة ما يزال حاضراً، ولا يغرنكم خموده، وأمن الوطن خط أحمر ينبغي لنا التكاتف جميعاً من أجله، وصدقوني بأن أفراد القاعدة هم الأكثر في تلكم السجون. ومقالتي المقبلة عن زيارتي لسجن الطرفية في القصيم.