بات الحديث عن نهاية الصحافة الورقية- بعد ولادة الإعلام الإلكتروني - أمراً واقعاً أكثر من أي وقت مضى، بل أصبح يأخذ أبعاداً أكثر جدية وقوة بالانتقال من مرحلة التنظير والتحذير إلى التطبيق العملي. ففي الفترة التي كان فيها موضوع نهاية الصحافة الورقية ساخناً في الولايات المتحدة، أدركت كبريات الصحف والمجلات الأميركية هذا الواقع مبكراً فاتجهت إلى إنهاء إصداراتها الورقية، مثل "واشنطن بوست"، و"نيوز ويك" وغيرهما.

واليوم أصبح للصحافة متحف. اسمه (النيوزيوم Newseum). افتتح في 11 أبريل 2008 بتكلفة بلغت 435 مليون دولار، ويقع في مبنى جميل بين البيت الأبيض ومقر الكونجرس بواشنطن العاصمة، وحددت مهمته في "مساعدة الجمهور على فهم مدى أهمية وجود صحافة حرة في السير الجيد للديموقراطية".. هكذا يقول برنار بوليه، لكنه يستطرد بأن كثيرين رأوا في هذا المتحف مصادفة سيئة الطالع، تشبه التكريم الأخير للمحاربين القدماء قبيل الاختفاء؛ حيث تزامن افتتاح المتحف باستغناء أكبر الصحف الأميركية عن مئات الصحفيين!

ورغم كل هذا الاعتراف العالمي بقرب اختفاء الصحافة الورقية من عالمنا، يفضل الأوروبيون عموماً والفرنسيون خصوصاً الاتجاه إلى محاولات إصلاحية لـ"تكييف" الواقع. وكنتيجة للهروب من هذا الواقع تم- بحسب بوليه - حظر نشر التقرير المهم الذي قام به فريق عمل برئاسة عالم الاجتماع الفرنسي (جون ماري شارون) بطلب من معهد المهن الصحفية، وقد تبنى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي منهج المحافظة ومحاولة إصلاح الصحافة الورقية بإنشاء هيئة عامة للصحافة المكتوبة، والتي لا أظنها سوف تصمد كثيراً في وجه المتغيرات القوية والمتسارعة في عالم الإعلام والاتصال؛ وفي هذا الصدد كتب مدير صحيفة "لوموند" (إيريك فوتورينو) بشيء من الأسى: النموذج الاقتصادي الذي بُني عليه مجدنا منذ عقود عدة يتآكل أمام أعيننا!

لكن السيد بوليه يؤكد أن الصحافة باتت جسداً كبيراً لكنه مريض! فالصحافة الفرنسية فقدت مصداقيتها منذ أكثر من عشرين عاماً، فمنذ ثمانينات القرن الماضي بدأ الجمهور أكثر حذراً إزاء ما يطرحه الصحفيون، رغم محاولة الصحافة الفرنسية اتباع منهجية موضوعية ومستقلة، وفي الوقت ذاته تثبت الصحافة الأميركية أنها قادرة على كشف الحقائق بحيادية تامة، فبعد نجاح الـ"واشنطن بوست" في طرحها وكشف خباياها أصبحت قضية "ووتر جيت" نموذجاً مهنياً لصحافة الاستقصاء يدرّس في أعرق معاهد الصحافة ومدارسها، وكان هذا الكشف لهذه القضية سبباً بفقدان الصحافة الفرنسية مصداقيتها.

وليس هذا الأمر حالة خاصة بفرنسا وحدها، بل بمختلف البلدان الأوروبية، فألمانيا مثلاً يوجد بها عدد من أقوى المؤسسات الصحفية في العالم، حيث تعتبر مؤسسة (بيرتلزمان) هي الأولى في أوروبا، ورغم سعي هذه المؤسسات إلى الحيلولة دون الاتجاه للصحف المجانية إلا أن هناك انخفاضاً في عدد الصحف غير المجانية في ألمانيا. أما الصحف الإيطالية فسبب رداءتها أمر واحد هو مهنيتها المشكوك فيها، إذ ما برحت أن تكون إما مؤيدة أو معارضة للنظام، وغالباً ما تكون ناشطة في قضايا محددة، حتى صارت أكشاك بيع الصحف الإيطالية مشهورة بـ"هدية العدد"، حيث يتم إرفاق أقراص ممغنطة أو كتاب أو تذكرة سينما، أو تخفيض لمنتج معين كهدية مجانية مع العدد، وفي المقابل يستحوذ الإعلام المرئي والمسموع على 60% من سوق الإعلانات وتزايد الصحف المجانية بشكل كبير.

أما بريطانيا، فتتمتع صحافتها اليومية بالحيوية الأكثر في أوروبا، سواء فيما يتعلق بصحفها الرائدة أو صحفها الشعبية، ورغم ذلك تشهد عملية توزيع الصحف تراجعاً مقلقاً في أكثر الصحف وأشهرها ومنها الـ"ديلي ميرور".

وكسبب آخر لانحدار الصحافة الورقية، يؤكد بوليه أن الإعلان لم يعد رفيقاً لوسائل الإعلام العتيقة، حيث لم يعد ممولاً لكبريات الصحف الورقية كما كان، حيث أصبح بوسع المعلنين اليوم تعريف المستهلكين بمنتجاتهم عبر الإعلام الإلكتروني بشكل يضمن وصوله لأكبر شريحة من الناس. وقد أثبتت إحدى الدراسات الأميركية أن أزمة الصحافة الورقية ليست ناتجة عن المكان الذي يذهب إليه الناس، ولا بفقدان متابعي الوسيلة الإعلامية، بل ناتجة عن فك الارتباط بين الأخبار والإعلانات! ويدعم (دومينيك ديلبورت) رئيس مجلس إدارة (هافاس ميديا) أن الأمر ليس سوى قضية وقت لتصبح جميع الإعلانات رقمية. ويشير بوليه إلى أن اختفاء الصحافة المكتوبة لن يكون مصيبة إذا حل محلها أشكال أخرى من النشر ولا سيما على شبكة الإنترنت، حيث لم يعد الإنترنت هو ما يهدد الورقي بل إن الورقي هو ما يحتاج للإنترنت.

وعلى أساس ما عرضه برنار بوليه، يمكن القول إن مؤسسات الإعلام التقليدية لن تتحول بين عشية وضحاها إلى الإعلام الإلكتروني ما لم تبتكر سبلا جديدة لمواكبة حرية الإعلام من جهة، والبحث عن سب لجذب المعلن الإلكتروني من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة تقديم حوافز مناسبة للصحفيين ليكون التحول للنشر الرقمي والصحافة المعاصرة سلساً ومواكباً للعالم المعاصر، مع التأكيد على وراثة المصداقية والاحترافية للإبقاء على الصحافة كمهنة، وهذا هو المهم.