في سنوات الضعف العلمي والهزال المعرفي، وصعود المزيفين من المتسلقين وأشباههم، علت نغمة كريهة في عديد وسائط الإعلام والاتصال، تتهكم وتسخر من دعوات العناية والاهتمام باللغة، وبلغت المهزلة ذروتها في مطالبات بعض هؤلاء من ضيقي الأفق بإقفال كليات اللغة العربية ودراساتها، وهي بالتأكيد مطالبات تنم عن جهل عميق، يغفل أبسط مخرجات اللغة السليمة والقوية، ألا وهي تحقيق التواصل بين بني البشر، فمفتاح مصافحتك الرئيس، عقب إشراقتك بالبسمة هو اللغة. حينما نفتقد اللغة ينعدم تحقق أي تواصل، ينعدم الذوق والاحترام ويتقاصى الإحساس بجماليات الأشياء والحياة.
على صعيد الرياضة، كأوضح حقل يعبر عن أشواق المجتمعات وتشوفاتها في عالمنا العربي، يستحيل أن ينجح أعتى المدربين، ما لم يتحقق له تواصل لغوي حقيقي بينه وبين اللاعبين.
وقس على ذلك التواصل بين الأكاديمي وطلبته في الحقل الجامعي، وبين الطبيب ومرضاه في المشافي، بين الموظف والمراجع في الدائرة الحكومية.
بالأمس، في ألمانيا كان اتحاد مديري المستشفيات يحذر من تزايد مخاطر عدم إتقان الكثير من الأطباء الأجانب العاملين في المستشفيات للغة الألمانية. ذاكرا أن نسبة هؤلاء الأطباء بلغت في
الكثير من المستشفيات في شرق ألمانيا أكثر من 50% وقال إن المعلومات الطبية لهؤلاء الأطباء جيدة في الغالب ولكن المستشفيات كثيرا ما توظف أطباء أجانب قبل التأكد من تمتعهم بمستوى لغوي جيد، وهو ما يمكن أن يصبح بمثابة مشكلة أمنية. مؤكدا أن تواصل الطبيب مع مريضه يلعب دورا جوهريا في توفير الأمان للمريض، ويوفر أقصر وقت لمقاربة الطبيب علة المريض.
أما علة واقعنا الذي صرنا إليه، فهي أن هناك تراجعا مريعا في مستوى الاهتمام باللغة وجمالياتها، ويزداد الأمر خطورة، حين تلمس فقرا لدى عديد العاملين في الوسط الإعلامي، ومحدودية في معجم مفرداتهم وقاموس كلماتهم، حتى إنك تشمئز من أمرين (تكرار المفردات في جملة لا تتجاوز السطرين، عدم إدراك المعنى المعجمي لبعض المفردات). ناهيك عما هو خاطئ وصار شائعا متسامحا فيه مثل الضاد التي تحولت لظاء عند البعض، أو (لاكن) التي أراد بها لكن، أو (إن شاء الله التي يصر البعض على كتابتها (إنشاء الله)، ولا فرق في ذلك بين مثقف وفرد عادي، دون أن يعني هذا فرزا طبقيا، قدر ما هو توصيف حال.
والأمر الواضح في حال كهذه، هو انعدام القراءة والاطلاع عند كثير من العاملين في الحقل الصحفي، وتماهيهم في التكوين الثقافي مع (كبسولات) زمن (الوجبات السريعة) حتى على مستوى المعرفة.
اللامبالاة بجماليات اللغة، معبر عن خلل في ثقافة الأمم والمجتمعات، وعندما تنحط اللغة في أي أمة لا تنتظر منها إبداعا كثيرا بقولها.