من هو الصيدلي؟ سؤال لا تزال الإجابة عليه غير واضحة لدى جمهورٍ واسعٍ من مجتمعنا، فلا يزال الكثيرون لا يفرقون ما بين الصيدلي والطبيب، ويجهلون دوره المحوري، والأسوأ من ذلك عدم قدرة طيفٍ واسعٍ من الصيادلة والصيدلانيات السعوديين على الإجابة على هذا السؤال بقدر من الوضوح والمسؤولية، فالبعض يتطرف في مفهوم الصيدلي حتى يدخله في كل شيء، والبعض يتطرف من الجهة المقابلة ويقتصر عمله على صرف الدواء فقط، بينما مهنة
الصيدلة أكبر من هؤلاء وهؤلاء!
مهنة الصيدلة أحد الأركان الأساسية لأي نظامٍ صحيٍ متطور، بل لقد كان لأجدادنا العرب المسلمين قصب السبق في فصل الطب عن الصيدلة، وجعلهما مهنتين منفصلتين، وذلك بإنشاء أول صيدلية مستقلة في بغداد عام 621هـ 1234م، وكان دورهم مهماً في بناء وتطور مهنة الصيدلة، الأمر الذي قاد إلى أن تكون علوم الصيدلة أغنى العلوم بالمصطلحات ذات الأصول العربية في الوقت الحاضر، أما في المملكة فلقد نُظمت مهنة الصيدلة مبكراً، حيث صدر أول نظام لها عام 1377هـ، وهو "نظام الاتجار بالدواء"، ثم صدر ثانياً "نظام مزاولة مهنة الصيدلة والاتجار بالأدوية والمستحضرات الطبية" في 18/3/1398هـ، أما النظام المطبق حالياً فهو "نظام المنشآت والمستحضرات الصيدلية" الصادر في 7/3/1425هـ.
على المستوى الدولي تطورت مهنة الصيدلة خلال العقود الماضية بشكل مثير، وتجاوزت المفهوم الكلاسيكي بحصرها بصناعة الدواء وصرفه فقط، حتى أصبحت أكثر ارتباطاً بالمريض، خاصة مع دخولنا مرحلة "الرعاية الصيدلية Pharmaceutical
Care" التي تعتمد على وجود حاجة ماسة وملحوظة في أي مجتمع ما لقيام الصيدلي بتبني ومن ثم تطبيق مفهوم الرعاية الصيدلية، عطفاً على النتائج الإيجابية المتوقعة على الفرد وعلى مجتمعه، هذا المفهوم الذي يبدو فضفاضاً يعتمد على مبدأين أساسيين هما العناية المباشرة وأخلاقيات المهنة على التوالي، وفي 1990م قدّم الأستاذان هيلر وستراند التعريف الشهير للرعاية الصيدلية بأنها: "مسؤولية تقديم العلاج الدوائي بهدف تحقيق نتيجة محددة تحسن من حياة المريض"، بينما عرفها الملتقى الصيدلي السعودي الأول
(الجبيل 1999م) أنها: "التقديم المسؤول والمستمر للعلاج الدوائي للحصول على نتائج محددة تهدف إلى تحسين حالة المريض الصحية والحياتية" ولكن للأسف لا يزال مستوى تطبيق مفاهيم "الرعاية الصيدلية" أقل من المأمول في مستشفيات النظام الصحي السعودي، صحيح أن درجة التطبيق تختلف من المستشفيات التخصصية إلى المستوى الأدنى في مستشفيات وزارة الصحة والقطاع الخاص، إلا أن المجمل يفصح عن عدم اهتمامٍ وتقديرٍ لدور الصيدلي في نجاح الخطة العلاجية للمرضى، أو على الأقل ضمان عدم عودتهم إلى المستشفى من جديد.
أما في صيدليات المجتمع؛ وهي الميدان الأوسع لإبداع الصيدلي، وتحقيق دوره الفريد في مجتمعه المحيط، فلا تزال سيطرة الصيادلة غير السعوديين حجر
عثرة أمام تطور هذا القطاع، وتجعل الصيدلية مجرد مركز تسوق وفرجة فقط، بينما في دراسة أجريت بإشراف الجمعية الصيدلية الكندية شملت خمسمئة صيدلية في جميع أنحاء كندا، وامتدت لمدة أربعة أسابيع فقط، وتناولت مدى أهمية تأثير التدخل الصيدلاني بالنسبة للأدوية الرفية OTC (تصرف بدون وصفة طبية وبمعرفة الصيدلي)، سجلت النتائج الآتية: توفير ما مقداره 79- 103ملايين دولار كندي نتيجة التدخل الصيدلي المباشر، توفير ما مقداره 19مليون دولار كندي نتيجة تحديد المرضى غير الملتزمين بالخطة العلاجية الموصوفة، توفير ما مقداره 168- 265 مليون دولار كندي نتيجة لتثقيف المرضى حول حالتهم المرضية وأدويتهم المستخدمة.
ومن خلال قراءة أرقام الدراسة السابقة؛ يتضح لنا أن إفساح المجال للصيدلي للعب جزءٍ بسيطٍ من دوره أدى إلى توفير ما يقارب 388 مليون دولار أو ما يعادل 64 ألف دولار للصيدلية الواحدة! وهو ما يعد مبلغاً كبيراً، فضلاً عن أثره الاجتماعي والنفسي على المريض وعائلته، ولك أن تتصور تحوّل صيدليات
المجتمع إلى مركز إشعاع علمي وطبي في أي تجمع سكاني، حيث تتكون علاقة مباشرة ما بين الصيدلي وأبناء الحي، ويقوم ببناء قاعدة معلومات تاريخية لزبائنه الدائمين، مما يمكنه من التدخل والمساهمة في الحفاظ على الأرواح وجودة مستوى الحياة، ناهيك عن توفير الوقت والجهد.
السؤال الأكبر أين الجمعية الصيدلية السعودية من هذا التغافل المجتمعي عن دور الصيدلي؟ وبالتالي تقلص فرص التوظيف وضعف المقابل المادي لعمل الصيدلي؟ أم إن دورها انحسر فقط إلى مجرد إرسال الخطابات، وعقد نزرٍ قليل من المحاضرات، والظهور الإعلامي فقط أم ماذا؟ أين دور أعضاء مجلس الشورى من الصيادلة؟ نحو سن مزيدٍ من الأنظمة التي تكفل للمريض الاستفادة القصوى من مهارات وخبرات الصيادلة، وتسمح بمزيدٍ من التطور في هذه المهنة.
الصيدلي ذخيرة علمية، ومكتبة متنقلة، فهل نستمر في تعطيل هذه المهنة العظيمة، أم نكتفي بالتطوير البطيء وغير المتواكب مع المستجدات العالمية، لكن الأمل الحقيقي معقود على الأجيال الشابة من أبناء وبنات المهنة، نحو تطوير مهنتهم، والأخذ بها نحو آفاق ومساقات أوسع، فأعداد الصيادلة السعوديين في تزايد مطرد، خصوصاً مع افتتاح الكليات الجديدة في معظم مناطق المملكة، وأعتقد جازماً أنهم أهل لذلك.