في خضم التبدل العالمي وبسبب السرعة التي يتميز بها هذا العصر تقول لنا الدراسات إن أي مهنة تم التدريب عليها أو تعلمها في الجامعات أو مؤسسات التدريب قبل عام 2004 هي مهن مهجورة ARCHAIC ويتطلب العصر الحاضر وفقا لدراسة بعنوان "أعلى عشر مهن تبحث عن ممتهنين" لباحث يدعى ريتشارد باتنقتون، يتطلب مهنا جديدة حددها بعشر مهن كما هو واضح من العنوان.. وقد بدأ الدراسة بسؤال يقول: هل يعتبر البحث عن وظيفة متساويا مع البحث عن مهنة؟ إذا كنت تعتقد ذلك فإن عليك إعادة التفكير في الأمر مرة أخرى، وإذا كنت تعتقد أن انخفاض معدل البطالة مؤشر جيد فإن الجانب السلبي فيه أن معظم عائد تلك الوظائف متدن، ولا يحقق الأمن المعيشي بكل ما يترتب عليه من التزامات، وهنا يلفت نظرنا ابتداء إلى أن المهنة تختلف عن الوظيفة.. وأن القضية ليست البحث عن وظيفة.. بل البحث عن مهنة، وهاكم التفاصيل..

البحث عن مهنة يحتاج إلى تخطيط وجهد لكن ذلك البحث والعناء المترتب عليه له مردود كبير على الفرد ويبرر ذلك العناء، ولأن التقدم الذي يشهده العالم متسارع فإن ذلك يتطلب مواكبته بتعليم وتدريب يواكب تقدم العصر للحصول على مهارات تتلاءم مع الصناعات ومجالات العمل الذي يعيشه العصر.. ولعل هذا السبب الذي دعا العدد الكبير من الحكومات ومؤسسات إعداد الموارد البشرية أن تعيد التفكير في ممارساتها، وتعيد تعريف مهامها وتغير من أهدافها لتكون الأهداف منصبة على إعداد الفرد لمهنته الأخيرة كما يقول جون دبياجيو رئيس جامعة ولاية ميتشجن السابق أثناء حفلة تنصيبه مديرا للجامعة. ويمضي كاتب المقال في عرض العشر مهن الأهم في وقتنا الحاضر ليقول إن هذه المهن موجودة في أربعة مجالات:

- الرعاية الصحية - تكنولوجيا المعلومات - التعليم - خدمات المهن.

وحدد مهن الرعاية الصحية بثلاث مهن هي:

- الخدمة الصحية المنزلية الخاصة - مساعد طبيب (وهذا لا ينطبق على التمريض) بل هو تخصص جديد - مستشار رعاية فكرية.

وحدد تكنولوجيا المعلومات بمهنتين اثنتين فقط وهي:

- محلل نظم ومعلومات الاتصالات - وهندسة تطبيقات الحاسب الآلي.

أما المجال الثالث فهو التعليم وحدد مهنة واحدة فقط فيه وهي:

- المعلم، وأعطاه وصفا مميزا وهو: المعلم المجتهد. وكلمة "المجتهد" لها متطلبات يطول الحديث فيها. لم يقل معلما مؤهلا، ولا معلما مدربا، المعلم المجتهد هو الذي يستمر عطاؤه لنفسه ولغيره، لنفسه باستمرار تدريب وتعليم نفسه والبحث عن كل جديد ليواكب العصر الذي يعيشه، ويواكب متطلبات القرن 21 ولغيره باجتهاده بالارتقاء بطلابه بكل فئاتهم ومستوياتهم إلى المستوى الذي يرضى عنه. معرفة مستوى ومتطلبات كل طالب تتطلب الاجتهاد "والاجتهاد فقط " من المعلم. فالاجتهاد في مهنة التعليم مهمة صعبة إلا للقلة القليلة ولهذا فهي من المهن النادرة التي يجب العمل على إنتاجها.

أما المجال الرابع: خدمات المهن فله أربع مهن وهي:

- مساعد قانوني، وبرر ذلك بارتفاع مهن المحامين في قضايا قد يقوم بها مساعد قانوني.

- خدمات التمويل التي تقدم خدمات التوفير وطرقه وأساليبه للمواطن العادي.

- متخصصون في المراقبة المالية.

- خدمات التوظيف، وهي المهنة التي تعتبر الأسرع انتشارا في الوقت الحاضر في قطاع الأعمال بأكمله. لأن التعاقد مع مهنيين لا مع موظفين يتطلب متخصصين في فحص المتقدمين للمهنة. والفحص يتطلب دقة ومهارات وعلما وتدريبا للوصول إلى حقيقة من نريد التعاقد معهم، وهذا صحيح، فمن منا جرب خوض غمار هذه المهنة يعرف تماما صعوبتها.

ومؤخرا شكل الرئيس الأميركي أوباما فريق عمل برئاسة رئيسة جامعة MIT السابقة سوزن هكفيلد وأعضائه من الحكومة الفيدرالية والأكاديميين والصناعيين لتقديم خطة لتحقيق هدفين: الأول: تدريس ما أسموه المهارات المتقدمة Advanced Skills التي تتطلبها الصناعات الجديدة التي ظهرت في هذا العصر في الجامعات وتغيير المناهج وفقا لذلك والهدف الثاني: تدريب القوى العاملة (على رأس العمل In-service Training) في المصانع والمعامل على تلك المهن.. وتم بالفعل تحديد تلك المهارات وكلفت كليات المجتمع في طول الولايات المتحدة الأميركية وعرضها بهذه المهمة وبدؤوا بتدريب 500 ألف عامل.. لأن المخططين قرروا أنه لا يمكن المنافسة عالميا بموظفين وعمال ومناهج تعليمية بنيت قبل عصر العولمة أو قل قبل حلول الألفية الثالثة.. ولا شك أن هذا جهد كبير وعمل شاق وتكلفة باهظة.. لكن الأجمل في الأمر أن هذه اللجنة لم تعمل طويلا حتى بدأت في تنفيذ ما قررته وبدأت فعلا بإلحاق العمال والموظفين بكليات المجتمع للتدرب على المهن المتقدمة..

إذاً الرسالة التي نريد الوصول إليها ببساطة هي أن العالم الذي نعيشه والعالم القادم مختلف تماما، ومتغير تماما، ويتطلب من مؤسسات الإعداد أن تتغير بالمثل، وأن تعيد تعريف نفسها وتغير أهدافها ورسالتها ومهامها، والأهم أن تعمل ذلك بشكل لا يؤدي بها أن نعمل "القليل في وقت متأخر "كما يقول المثل.

عندما نعرف مثل هذه الحقائق ونحن مسؤولون عن إعداد كوادر بشرية لأي مجال من المجالات هل نبادر إلى إعداد الدراسات والبحوث التي تكشف لنا عن مدى التغيير الذي يجب أن نحدثه وحجمه في مؤسساتنا، وكيف نكيف برامجنا أو نعدلها أو نستبدلها ببرامج أخرى يتطلبها سوق العمل؟ وما هي احتياجات هذه التغييرات وكم الوقت الذي تستغرقه. إن صم الآذان وإغلاق العيون عن حقائق نعرفها لأن آثارها ومسؤولياتها لن تكون في عهدنا بل في عهد مسؤولين آخرين أو لأن هناك صعوبات أو عقبات لا نريد أن نضعها على الطاولة حفاظا على السلامة والهدوء والاستقرار لمؤسستنا أمر يجب إعادة التفكير فيه. نعرف تماما أن إقفال قسم في جامعة أمر صعب، ووجود أعداد كبيرة في تخصص لا يحتاجه سوق العمل وتحويلهم أو إعادة تأهيلهم في قسم آخر أمر صعب. والحقيقة أن الكثيرين منا لا يرغبون إثارة قضايا من هذا النوع في مؤسساتهم حتى لو أن الضحية هو الوطن أو المواطن.

تخيلوا معي بضع مئة من الآلاف من المتخرجين يحملون ملفات خضراء يجوبون بها الشوارع يمينا وشمالا للبحث عن وظائف نهارا ويتسكعون يمينا وشمالا ليلا.

العالم يتبدل فهل نحن قادرون على التبدل معه؟