كثيرا ما أسأل نفسي في السنوات الأخيرة؛ ما الذي ينبغي أن يقدمه المثقف للمجتمع الإنساني بالدرجة الأولى؟ وما الهدف الأساسي من سعيه وخوضه الثقافي؟ وهل نجح في تقديم ما يتحتم عليه نحو إنسان الشارع؟.

سأقترح بعض المحاور التي تحـتاج ـ في الواقع ـ إلى كتب ومحاضرات للحديث عنها، لكنني سأطرحها هنا على عجل لعل وعسى.

شخصيا أزعم أن المثقف كان ولا يزال أحد أهم أركان أزمة المجتمع العربي فكريا وثقافيا. والمثقف والسياسي هما أهم صانعين للمأزق الثقافي عربيا، لكنني هنا سأتناول المثقف فقط، والذي أعده أهم مسؤول عن الفجوة الفكرية بينه وبين المجتمع. والتي تسببت في إبطاء رتم عملية بناء الإنسان العربي النموذجي فكريا وثقافيا حتى اللحظة.

حدث ذلك نتيجة العزلة غير المفهومة التي يعيشها ويستسيغها المثقف ذاته، والتي بدورها عزلته عن إنسان الشارع البسيط. فعندما يعجز المثقف عن إيجاد الحلول والبدائل للتغلب على العقبات المقابلة لمشروعه التنويري، يكون قطعا بموازاة السياسي الضعيف المتردد أو العنيف المتهور أو العاجز. البعض اختلط عليه استيعاب أدواره التنويرية المهمة، واختلق قضاياه البديلة التي تلبس فيها دور المناضل المخلص المتصادم مع السلطة (جيفارا). وعزوا ذلك إلى المتغيرات السياسية المتلاحقة في المنطقة العربية، والحركات التحررية التي قاومت المستعمر. والتي وسمت فيما بعد وشغلت حيزا عظيما من ذهنية الخطاب الثقافي العربي، وصبغته من رأسه حتى أخمص قدمه. وذهب البعض إلى تبني قضايا خطابات أممية عالمية أكثر بعدا عن واقعه ولا تهم مجتمعه، ولا تشكل هما حقيقيا تُجيز له رفع سقف البحث والتجريب. فيما أسرف بعضهم في إفراغ مخزونه التنويري المفترض، في أتون حروب طاحنة ضد خصوم افتراضيين أحيانا! نتيجة الاحتكاك بالثقافات الأخرى وتياراتها الفكرية ومشاريعها السياسية الجديدة كـ(الليبرالية، والعلمانية، والديموقراطية، والشيوعية، والاشتراكية.... إلخ). واكتفى البقية الباقية بتبادل التنظيرات والحوارات النخبوية المحدودة، وتدويرها داخل تلك الدائرة الضيقة. فلا هم نزلوا إلى الشارع ولا الشارع صعد إليهم. مُخطئين بذلك هدفهم الحقيقي كنخبة يُفترض أن تكون نخبة مستنيرة. تمارس دورها الأخلاقي المعبر عن إدراكها لمفهوم المثقف ومعناه. وهو هروب يحمل بين طياته الكثير من القلق، وتعبير عن حالة الإحساس باليأس وحجمها، ما يُشعرك بأنه لا وجود لاستراتيجية واضحة يتحرك على أساسها المثقف العربي أو مشروعه الثقافي المُتخيل، فنجم عن ذلك ما يشبه القطيعة بين المثقف والمجتمع. وقد وفر ذلك التخبط بعشوائيته تلك، أرضية خصبة لطغيان مد الخطاب الدوغمائي (الفكر الجامد، والرأي الأوحد) المنتمي إلى المدرسة الراديكالية، والذي أثبت تماسكه وسيطرته، وسهل له مهمة الاستحواذ على مساحات ميدانية أكبر. ليقتنع المثقف العربي ومشروعه التنويري بالقعود "في الركن البعيد الهادئ". وما نتائج الربيع العربي إلا دليل دامغ على ذلك، ووضح للعيان قوة تأثير الخطاب (الثقافي) المقابل، الذي نجح في قراءة الشارع والتعامل معه بواقعية أكثر.

لقد فشل المثقف العربي في رسم صورته الواضحة كتنويري ناضج يعي حجم وقدرات العقلية التي يتعامل معها. النماذج التاريخية تقول: لم يكن أي من أرسطو وسقراط وأفلاطون والكندي وابن رشد وابن حزم وغيرهم في يوم ما خصوما للسلطة بالدرجة الأولى. بل إن اصطدامهم بالسلطة كان نتيجة لأدوارهم التنويرية داخل أسوار المجتمع. ورغم ذلك لم نرهم إلا مضحين بحياتهم، ولم نرهم يكرسون جل مخزون طاقاتهم لمواجهة السلطة، بقدر إيمانهم بضرورة نشر الوعي والثقافة كرسالة إنسانية وأخلاقية عظيمة لها الأولوية. وتاركين أمر مواجهة أخطاء السلطة ومقاومتها، إلى (ناتج) العمل التنويري المعرفي والثقافي وتراكماته لدى الشعوب متى ما شعرت بضرورة تلك المواجهة وتحديد أوانها، لأن المثقف لا يُفترض به أن يكون الخصم أو الحكم لأي جهة أو طرف إلا ضد طرف واحد فقط هو (جهل) مجتمعه وتخلفه معرفيا وثقافيا وفكريا، وبالتالي فقد خلد التاريخ نجاحات أولئك النفر المستنيرين، وقلبهم للمفاهيم والتصورات والممارسات الخاطئة، وتطبيقاتها الحياتية لدى الشريحة الأعرض التي يمثلها جمهور (المجتمعات الشعبية)، فالمعرفة هي محصلة تراكم كسبي بحت لعملية التنوير، والثقافة هي منجز وتطبيق ذلك الكسب على أرض الواقع.

وحين يورد المثقف العربي مسوغات غير منطقية لتبرير ترنحه وبؤسه، فهو إنما يحاول ترويض نفسه بنفسه، في رغبة - مهينة - للتنصل من مسؤوليته العظيمة كحامل للمشعل التنويري للمجتمع.

لا أشك في نُبل أهداف المثقف العربي الأصيلة، إلا أنني أعتقد أن كثيرا منهم فقدوا الطريق المفترض بهم أن يسلكوه، وأصبحوا نسخة من أبطال الرواية الشهيرة (ثمانون عاما بحثا عن مخرج)، وبقي المجتمع متأخرا كأبطال رواية جارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة). وبقيت علاقة المجتمعات العربية بمثقفيها كما يقول المثل الشعبي "أصم وجنبه مغني".