خلال شهر واحد، مرت مناسبات ثلاث، لها إسقاطاتها القوية على مستقبل العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص. المناسبة الأقدم هي وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور في 2 نوفمبر 1917 لزعيم الجالية اليهودية في بريطانيا، اللورد روتشيلد لينقله للمؤتمر الصهيوني، بدعم الحكومة البريطانية فكرة إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين. المناسبة الثانية، فهي العدوان الثلاثي، على مصر في 29 أكتوبر 1956. والمناسبة الأخيرة، هي معركة العبور في 6 أكتوبر 1973، وما تبعها من انتقال استراتيجي في طبيعة الصراع العربي مع الصهاينة، وأيضا الانتقال الحاد في خارطة التحالفات السياسية في المنطقة.

ما يهم في هذا الحديث، ليس قراءة هذه المناسبات، بل وضعها في سياقاتها التاريخية، من حيث علاقتها بالصراع الدولي، وتأثيرها في صياغة خطاب سياسي، يصبح من بديهيات ومستلزمات مرحلته.

مفردات كثيرة، جرى بعثها أو اجتراحها، أو استيرادها، دون توطين، من عوالم أخرى، لكن لها قوة جذب خاصة تأسر العقول وتخترق الثقافات. نزلت هذه المفردات نزول الصواعق، وكانت أشبه بصرخات الموضة، تخطف الأبصار بقوة سحرها، ثم ما تلبث أن ترحل سريعا لتعود ثانية متلفعة بإسار آخر.

فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، برزت مفردات الانبعاث واليقظة والنهضة والمعاصرة والحداثة، لتلحق بها بعد فترة تعبيرات الحرية والاستقلال الوطني والعدل والمساواة والأخوة، والكفاح ضد الاستعمار، والنضال ضد العنصرية، وحق تقرير المصير، وحقوق الإنسان، ودولة العدل والقانون.

وفي المرحلة التي أعقبت الخلاص من العثمانيين، دخلت مفردات أخرى: السيادة، العلم، النشيد الوطني، الحدود المعترف بها، النظام العالمي الجديد، عصبة الأمم، والدستور، والبرلمان، والوحدة العربية والدولة القومية، ومبادئ ويلسون الأربعة عشر، والبراءة من العداء للسامية، الأصالة والمعاصرة. نتحدث في هذه المجموعة من المفردات، عن خلطة تتشابك مع بعضها، بعضها وافد وبعضها الآخر مجترح، ولن يصبح ممكنا وعيها، دون تفكيكها، ووضع كل منها في سياقه الموضوعي، من حيث هو في حقيقته استعارة ظرفية، ذات علاقة بمكان وزمان محددين.

تلك مرحلة نهوض، بدأت فيها الشعوب العربية، مرحلة النضال، للتخلص من الاستبداد العثماني. وكان الوهم قد أوحى لكثير من النخب السياسية، أن التحالف مع البريطانيين، سيجعلنا نقترب من روسو في عقده الاجتماعي، وهوبز في تصوره للحرية وفيبر في عقلانيته القانونية، وموتتسكيو في روح القانون ولوك، في وثيقتيه عن المدينة المعاصرة. دخل مسمى عصر الأنوار بيوتنا، من غير أذن وحسبنا أننا بالتخلص من العثمانيين، سنقترب من الدولة المدنية. لكن الحصيلة هي تفتيت مشرقنا، لكيانات متناحرة مع بعضها، وفقا لترتيبات سايكس - بيكو وزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة، تماهيا مع وعد بلفور آنف الذكر.

المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الأولى، شهدت صراعا بين الإمبراطوريات الصاعدة، والقديمة التي أوحت نتائج تلك الحرب بقرب أقول نجومها. وحين اندلعت الحرب الكونية الثانية، بدا أن الزمن يتسارع، مقررا نهاية الاستعمار القديم، وصعود اليانكي الأمريكي والدب القطبي، بقوة كقطبي رحى في مسرح الصراع الدولي. وكان للصراع الجديد جاذبيته، فهو معزز بعقائد جديدة أخذت تشق طريقها، بلمعانها وبريقها، كافة بلدان العالم الثالث. ومعزز أيضا بقوة انتصارات علمية، واكتشاف للقوة التدميرية للصراع النووي. والمنطق في خياراتنا بدا جليا: صراع بين حرية الفرد وحرية الجماعة. ودخلنا في هذه المرحلة جدلا بيزنطيا عميقا، وضعنا بين متقابلات، ما كان لها أن تكون في تلك المرحلة غير ذلك. خيار بين الاستعمار والاستبداد، بين الظلم والعبودية، بين الحرية والعدل. والصراع لم يكن بين أضداد، حتى تستقيم الرؤية، وتتضح معالم الطريق.

فالحرية على سبيل المثال، هي من المنظور الفلسفي، كل لا يتجزأ، وعلى هذا الأساس، لا يستقيم الحديث عن حرية الجماعة حين تغيب حرية الفرد، والعكس صحيح. وكذلك ليس منطقي أن يفرض علينا الاختيار بين الاستعمار والاستبداد، أو بين الظلم والعبودية، فكلاهما مر، ولا يخضعان لقانون المنزلة بين المنزلتين.

في ظل تشوه، فكري وبنيوي، انتزعت الشعوب العربية استقلالها. ومن الطبيعي، في ظل ضعف التشكيلات الاجتماعية، وغياب بوصلة النهوض، وغلبة النص على المضمون، وغياب العلم الحق والعمل الحق، وبهوت ثقافة الإبداع، والبيئة الحاضنة لفكرة الدولة المدنية، أن تتيه بوصلتنا، وأن تصبح رؤيتنا لصراعنا مع الصهاينة، مشوبة، بعناصر النكوص، فتصبح الرؤية عدمية، ترفع الشعارات العنترية، دون أن تمتلك من المفاتيح والقدرات ما يهيئ الأمة لإطلاق مبادرات عملية لاسترداد الحقوق المهدورة، وفي المقدمة منها حق شعب فلسطين في العودة إلى دياره وبناء دولته المستقلة.

ثقافة كهذه ليس لها إلا أن تراوح بين عدمية، وشعارات كبرى تحرك الشارع العربي، وتدفع به لمعمعان الكفاح، كلاءات الخرطوم، لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف، وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وهي بالتأكيد شعارات صحيحة ومطالب مشروعة، لكن شرط تحققها هو وجود الوعي والقدرة وإرادة التحرير، ولم نكن نملك من هذه العناصر ما يكفي لإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.

بعد معركة أكتوبر 1973، انتقلنا مباشرة من العدمية إلى التفريط. وحملت هذه المرحلة أخطر المفردات التي تسللت بقوة لقاموسنا السياسي، والأمثلة كثيرة: إعطاء قوة دفع لعملية السلام، وفك الارتباط، وسياسة الخطوة خطوة، والتطبيع، وكسر الحاجز النفسي، والشرعية الدولية، والحقوق المشروعة، بما يشي بأن عدم الاعتراف بالكيان الغاصب هو أمر غير مشروع، وخارطة الطريق، وتفاهمات لا تعد ولا تحصى. وكل مفرد يقضم جزءا لا يستهان به من حقوقنا، وكرامتنا، حتى لم يعد لدينا ما يمكننا أن نتفاوض عليه.

يذكر أن الرئيس عرفات زار فرنسا، قادما من أميركا، أثناء حقبة الرئيس ميتران. وفي اجتماع خاص مع وزير الخارجية الفرنسي، طلب إليه أن يقدم تنازلا باسم الفلسطينيين من أجل خاطر ميتران، لدعمه أمام الهجمة الصهيونية التي يتعرض لها. تعلل عرفات بعدم وجود ما يمكنه التنازل عنه، فذكره الوزير بميثاق منظمة التحرير، الذي يطالب بتحرير فلسطين، كل فلسطين. وفي مؤتمر صحفي عقده عرفات، أعلن إلغاء الميثاق. هل كان ذلك نتيجة اختلال في موازين القوى العربية؟ أم أن له متأثرا بسحر المفردات التي تزامنت مع شيوع فكر الهزيمة، وسيادة ثقافة العجز. أسئلة لا شك أن الإجابة عنها ستكون مدخلا لصياغة فجر آخر... فجر أكثر بهاء وروعة، والأهم من ذلك بكثير أنه فجر يعيد لنا البعض من الكرامة المهدورة.