ثم طريقان لأن يخون المثقف وظيفته، إما أن يروج إعلاميا وإما ألايروج إعلاميا. هذا ما كان يراه ريجيس دوبريه في حواره الذي انطلقت منه الأسبوع الماضي مع جان زيغلر. فإذا روج إعلاميا أصبح ممثلا فاشلا، أو قوّالا أو مفوه لعنات أو واعظا إذا شئت، وبذلك يخون أخلاقية الذكاء، حسب وصف دوبريه، الذي يضيف: (ويخون تعريف المثقف بالذات، غير أنه حتى ولو لم يروج إعلاميا يخون وظيفته، لأنه يتخلى عن الالتزام).

كان دوبريه يؤكد في مطالع التسعينات أن ذلك المثقف لم يعد من طراز (زولا وفولتير وكامو، بل من طراز فلوبير أو باربيه دورفيلي)، ذاهبا إلى أن السواد الأعظم من القراء لهم شيوخ روحيون، وليس لهم من المثقف إلا اسمه. يقول: (هؤلاء المؤدلجون يخضعون لقانون السوق الإعلامي ، ونراهم في كل مكان). لكنه كان يميل شخصيا إلى الاعتقاد أنه من الأفضل أن يعمل المرء في ركنه الخاص موضحا (..وينبغي أن يغادر واحدنا الجحر حين تشتعل المدينة فعلا، حين توضع موضع التساؤل الأمور الجوهرية بالفعل. أما الباقي، فلكل منا أن يحيا كما يشاء، وفق أولوياته وإيقاعات يومه ومراحله).

تخيل أنه في ذلك الوقت كان المثقفان الكبيران يشكوان. زيغلر يقول لدوبريه: (إلى أين نتجه؟ هل مصائرنا محكومة بأن تحفظ في المتاحف، ونكون عبرة لذاكرة جماعية؟). ليرد من فوره دوبريه: (لقد نبهني كلامك إلى فكرة ممتازة، وهي أن يقام متحف للانتلجنسيا، متحف استعادي للمثقف).

ولمزيد من الدقة أوضح له زيغلر: (أقول إن المثقفين لاينتجون المعنى، بل يخلقون الشروط الموضوعية لإنتاج جمعي للمعنى). واصلا إلى أنه: (على المثقف أن يعثر على أنماط إنتاج وعمل جديدة، جديدة كل الجدة، وغير محددة بعد). ويعلو صوته محتدا: (هناك حقب تنتهي، والضجيج الإعلامي يطغى على المشهد، ما عاد أحد يسمعنا، غير أن وظيفتنا الاجتماعية بوصفنا منتجي معانٍ تبقى ضرورة أولى في المجتمعات البشرية كافة اليوم، لذا علينا أن نباشر في البحث عن أدوات جديدة ووسائل لأنتاج المعنى).

يصغي دوبريه جيدا قبل أن يعترف: (أما أنا، فلا أشعر بوجودي كمثقف لابد منه، مهنتنا، على ما أعتقد، هي أن نتعلم فك رموز الواقع على نحو أفضل، إذا أردنا أن ننصرف إلى عملنا، يجب أن نقصد المكتبة العامة لننجز مخطوطة العمل الذي ينبغي أن ننجزه، فإما هذا أو ذاك، وفي أي حال، لسنا ملح الأرض).