واستلافي لمصطلح (الكهنة) في العنوان بعاليه لا رابط له أبدا في السياق الذي عادة ما يكون مع المصطلح. مهنة الكاهن ـ هنا ـ دوما تمييع القضايا وتزوير الأسباب ولدينا من هؤلاء ما تضيق به الشوارع والمكاتب. هم كهان الإدارة المهترئة مثلما هم كهنة الأخطاء التنموية، ومثلما هم أيضا كهنة التبرير في آخر حادثين قتلا عشرات الأبرياء: لا أحد يعلمني مبدأ الإيمان بالقضاء والقدر فهذه عقيدة وصلب إيمان، ولكن لا يأخذنا بها هؤلاء الكهنة من طواقم الإدارة لنفي الخطأ البشري الواضح. ضحايا "عين دار" في بقيق هم ثمن هائل لرصاصة طائشة ضربت أسلاك الكهرباء فأحالت ضيوف فرح إلى ما يشبه صحن الأسماك المشوي، وبعدها، امسحوا اللحى.
الرصاصة مكانها ساحات المعارك لا قصور الأفراح، فما الثقافة التي تجعل من حملة الرصاص الطائش أبطالا و"طوال شوارب"؟
السبب هو التشجيع الممنهج على ثقافة (الهياط) حتى بات لكل فصيلة قناتها الشعبية الهابطة التي تصور هذا التخلف الثقافي والفكري بطولة. لم تشوه هذه القنوات المتخلفة تراثنا فحسب، بل شوهت صورتنا أمام الآخرين.
صارت هذه القنوات الشعبية سوقا لمن أراد أن يشتري له قدرا اجتماعيا بثمن عرض لحلقة. شاهدوا – يوميا – كم فيها من الرصاص وأشعار القبيلة والسيف والدم، فمن هو الذي دفع حياته ثمنا لرصاصة طائشة. ضحايا ناقلة الغاز هي ثقافة التساهل التي تسمح لمجرد سائق لم يعرف (الطارة) إلا في بلدنا بأن يقود قنبلة هائلة حارقة بلا رقيب. بلا حتى ما تحت حدود الحد الأدنى من السلامة. نحن نحرس مصالح البنوك بسيارات أمن صناعي خلف سيارتها التي تحمل النقود إلى الصراف ولكننا لا نبالي بحراسة أرواح الخلق من آلاف القنابل المتحركة بأصناف الوقود في كل شارع وحارة: تخيلوا ماذا لو كان الحادث صباح السبت بجوار مدرسة.
لدينا هيئة عليا اسمها هيئة الأمن الصناعي؛ لديها دفتر شروط وقوانين وضوابط وكلها غارقة في (دبس التمر)، وزهقت الأرواح وما زال هؤلاء في تبرير الكهنة، والقرار الشجاع ألا تدفن الرؤوس الجريحة من القتلى، بل أن تطيح رؤوس ما زالت معنا (حية) تبرر للكارثة. رؤوس صفراء في المكاتب العليا للشركات والأمن الصناعي، وسأختم بكل صراحة: نخجل جدا أن تدفن كل هذه الجثث دون أن نعاقب الجثة التي ما زالت حية ترزق.