خلال دراسة مرحلة الماجستير في التنمية البشرية والدراسات التربوية النفسية، كان هناك تطبيق عملي لمادة Practicum in School Psychology، تطبيقاً في علم النفس المدرسي داخل المدارس لتحدد مجموعة من الطلاب ذوي الاحتياجات في هذا الجانب من خلال الملاحظة والمقابلة الشخصية واختبارات الذكاء والمقاييس وتبدأ معهم تطبيقاً وعلاجاً ومساعدةً، كنت أدرس حينها في الأكاديمية الإسلامية السعودية في واشنطن، وقد وجدت عدداً من الطلاب من خلال التعامل اليومي معهم ومن خلال معلميهم وعدة ملاحظات مختلفة، حددت إحدى عشرة حالة كي أظفر بأربع حالات رسمية وأبدأ معها، ولأن أهم أسس التطبيق العملي المنهجي في مثل هذه المواد هو أن تأخذ إذناً صريحاً من إدارة المدرسة ومن أولياء الأمور كقانون علمي أميركي، مكثت أسبوعين أنتظر ذلك الاعتماد، وللأمانة كان أغلب من يحتاج إلى متابعة خاصة كانوا من أبنائنا السعوديين.
النتيجة المذهلة كثمانية ألمانيا.. رُفضت ثمان حالات بالإصرار من تسع، وأتت موافقة من تاسعهم الذي كان والده يدرس الدكتوراه هناك، وجاءتني الموافقة تخص اثنين من أبنائنا الأميركيين العرب الذي قدم أهلوهم شكراً عميقاً وسعدوا بذلك، أتذكر والد أحد الرافضين عندما زار المدرسة وذكرت أن ابنه يعاني من عدم التركيز فعرضت عليه بعد شرح كل ما يتطلب لهذه الحالة فذكر لي بصوت حانق: ابني ليس مجنوناً، ألا ترى أنه يدرس ويلعب ويأكل ويشرب وليس لديه أي مشكلة؟ تذكرت حينها قناعة إدارة أكاديمية واشنطن نفسها بعدم توظيف حتى مرشد طلابي ناهيكم عن أخصائي نفسي مدرسي، فعرفت حينها أين المشكلة؟!
في مدارسنا كم من إنسانية فقدت، وموهبة قتلت في عقر عقلها وذاتها وبقيت محاصرةً بين الخذلان والإحباط لأنها تفتقر إلى كثير من مقومات النمو الاجتماعي والنفسي تحديداً، ويعود ذلك إلى إهمال الجانب النفسي للطالب منذ دخوله إلى المدرسة، فأسفاً كثير من المرشدين الطلابيين عملهم محصور في (أرشفة) المدارس بين فتح ملفات للطلاب وبيانات حضور وانصراف متبلدة حتى (الكبر)، وتوزيع أوراقٍ متآكلة في بدء كل عام، وتواصل (أحادي) مع معلمي المدرسة وأولياء أمور الطلاب إبلاغاً بأن أبناءهم متأخرون دراسياً وأنهم محتاجون للمتابعة للرفع من مستواهم الدراسي دون تشخيص لحالات الطلاب ذوي الرعاية الخاصة، ودون دراية بخصوصياتهم أو حتى ظروفهم الاجتماعية والنفسية، يقابلهم كذلك معلمون تخفى عليهم جوانب كثيرة من (شخصية) الطالب، فلا يهمهم البحث عنها بل إنهاء الدرس في وقته المحدد وروتينية الإجراء.. وأخيراً (الدرجات) هي المحك والشخصية! لذلك من يقول إن مدارسنا لديها مقومات النمو الاجتماعي والنفسي للطلاب تحديداً، فهو مخطئ بالأمانة والإنسانية معاً!.
مدارسنا بحاجة لمتخصصين في (علم النفس المدرسي) الذي تخلو جامعاتنا منه، هذا العلم الناشئ والمتفرع من علم النفس التربوي، يسعى المتخصص فيه إلى تشخيص الاضطرابات الانفعالية أو النفسية للطالب بهدف متابعة النمو النفسي والجسمي والاجتماعي والعقلي والأخلاقي والروحي وتحسين الأداء المدرسي وأسباب فشله، وتحديد مدى صلاحية الطفل للدراسة بإهماله أو معاناته من المشاكل الأسرية والاجتماعية أو حتى التحاقه بمدرسة لا تناسبه، مما يتطلب إنشاء ملف متكامل سري وخاص يعرض على المعلمين ويسجلون ملاحظاتهم على الطالب كل عام، وكذلك يؤدي دوره إلى دراسة العلاقات الإنسانية داخل المؤسسات التربوية لتحقيق التنمية المدرسية وتطوير الجو المدرسي، مخصصاً جزءًا كبيرًا في تشخيص المشكلات المدرسية والسلوكية للتلاميذ وعلاجها تطبيقياً، كالشذوذ أو الجنوح، التخلف الدراسي وأسبابه، القلق، العدوانية، الاكتئاب، العنف والعدوانية..
وباختصار، نجد مسار هذا العلم الحديث يلامس تلك الأنفس البريئة والذي يقول عنه الدكتور ريد ويلمسون من جامعة هاورد الأميركية: "المشاكل النفسية أو الانفعالية كما يسميها المتخصصون تظهر في المراحل الأولى من التعليم الابتدائي، لذلك وجود متخصص ضمن منسوبي أي مدرسة في العلم الناشئ (علم النفس المدرسي) ووجوده في مدارس أميركا أصبح متطلباً رئيساً لكل مدرسة قبل أن تفتح أبوابها".
علم النفس وفروعه من أهم العلوم الإنسانية وأقواها فهماً وتحليلاً لسبر أغوار النفس البشرية بكل أبعادها.. وهو ـ للأسف ـ يضاف إلى مسلسل التغييب للتربية النفسية والإنسانية في مدارسنا التي نأمل منها أن تهتم بمستقبل النشء رغم ما تسببه من أمراض نفسية لطلابها ومعلميها وللمجتمع بأسره في عصر لا يقبل أنصاف الحلول!