كتبت قبل فترة وأعيد الكتابة عن نفس الموضوع لأهميته، هذا الموضوع يتعلق بما تعاني منه إنجازاتنا على مستوى المسؤولين، وأخلاقنا على مستوى الأفراد، بسبب وجود مشكلة كبيرة هي "ثقافة التبرير" المنتشرة في مجتمعنا، ندفع بها عن أنفسنا شبح الخوف من المسؤولية، والتباهي بالظهور دون أخطاء أو سلبيات، حتى إن هذه الثقافة تنتقل من جيل إلى جيل، بسبب تكريسها واقتداء صغارنا بما نفعله نحن، ثم اقتداء صغار صغارنا بما يفعلونه هم، حتى أصبح المجتمع يعاني من مشكلة "التبرير" إلى درجة أنها أصبحت سمة من سماته.

اسأل ابنك عن خطأ ارتكبه، تجده يسوق لك المبررات، وإن كانت غير صحيحة أو غير منطقية. وعندما يرتكب الموظف الذي يعمل لديك خطأ، وتستدعيه لمناقشته فيه، تجده يصرف كل تفكيره في جمع المبررات والعمل على طريق وأسلوب مقنِعَيْنْ لمواجهتك بهما.

واسأل المقاول الذي تأخر في إنجاز المشاريع التي يقوم بها، وأسالوا كافة أفراد المجتمع عن أخطائهم، فسوف تجدون أنهم يصرفون جل وقتهم للمبررات. إنها ثقافة يجب أن تتبدل، فالشعوب الواعية تدرك أن الخطأ من سمات البشرية، وأن الخطأ ليس عيبا أو نقيصة، بل هو كما قال أديسون: "طريق لا يؤدي إلى الحقيقة". إذ الخطأ هو اكتشاف وليس عيباً. هو اكتشاف طريق مسدود نتعلم منه ألا نطرق هذا الطريق مرة أخرى.

هذه ثقافة متحضرة، والسؤال الملح: من المسؤول عن تكريسها في مجتمعنا ومتى؟

في المجتمعات المتحضرة يتعلم الأطفال قبل دخول المراحل الأولى في التعليم وقبل مرحلة الدراسة هذه الثقافة في المنزل، سواء بالتعليم المباشر بأن يقول الحقيقة، أو عن طريق القدوة من والديه. هذا ليس إعجابا بثقافة الغرب كما قد يتبادر للقارئ عندما يقرأ هذه العبارة، وإنما هي حقيقة متأصلة في مجتمعهم يلمسها كل من يعرف تلك المجتمعات. إنهم لا يبررون ولا يقبلون تبرير الأخطاء من أبنائهم، ويعفون عن الخطأ الأول بحزم منددين بالعقاب إن تكرر. وقد تزور عائلة غربية فلا ترى أحد الأبناء، وعندما تسأل عنه يقولون لك: "grounded" وهي كلمة تعني أنه معاقب ببقائه في غرفته لوقت محدد، ممنوع فيه من مشاهدة برامجه المفضلة، أو ممارسة ألعابه، أو حضور حفلة أو ما إلى ذلك. وبالمقارنة مع مجتمعنا تسأل ابنك عن عدم ذهابه للمسجد للصلاة مع الجماعة أوعدم أدائه لواجباته أوعن أي خطأ ارتكبه، فيسوق لك المبررات فترد عليه بأفضل ما في القاموس من عبارات اللطف والمحبة، فتربيه على التسامح في مقامات ليس التسامح مكانها، فينشأ على هذه التربية التي يقول فيها أبو العلاء المعري:

أما تدري أبانا كلُّ فرعٍ يجاري بالخطى من أدبوه

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه

ثم إذا ما ذهب إلى المدرسة، أقول بتحفظ حتى لا أتعرض لضيق زملاء المهنة، أن مثل هذه الثقافة لا تجد تركيزا، وأعني بذلك أن هذه القيمة القيّمة هي من القيم التجريدية، التي لا يمكن تعليمها في منهج نظري عن طريق المحاضرات والإلقاء، تماما مثل القيم التجريدية الأخرى المحبة والسلام والصدق والأمانة والكرم والشجاعة، وقس عليها بقية قيمنا ومبادئنا ومثلنا الإسلامية المتميزة التي لا يمكن أن نغرسها بمجرد الحديث عنها. إنها معانٍ شديدة العمق يجب غرسها في نفوس ناشئتنا منذ "نعومة أظفارهم" كما تقول الحكمة، وتفهمها واستيعابها ثم ممارستها تحتاج إلى وقت وجهد وبرامج وخطط، ثم الاستمرار في ذلك وعدم الاقتصار على أوقات محددة داخل الجدول الدراسي، بل جدولتها طوال أعوام دراسة الأطفال في برامج لا صفية، فلا يقتصر على الحديث النظري، وإنما تمارس القيم في برامج لا صفية نوعية تحول فيها القيم التجريدية وتترجم إلى واقع ملموس يلمس فيه الطفل ويتذوق معاني الصدق، وأين يؤول بصاحبه، والكذب وأين يأخذ ممارسه. والأمانة وما هي نتيجتها وسوء أدائها وعواقب ذلك السوء في أدوار تمثيلية، أو مشاريع مشتركة مخططة ومبنية بعناية، وأركز على قضية الاستمرار.

نحن بوصفنا مجتمعا إسلاميا، أولى من أي مجتمع آخر بهذه القيم. ويجب أن يعود مسلمونا لإسلامنا الصافي المنبع، الذي يفيض علينا سلوكا يكشف ذلك الصفاء. إنه لأمر غريب أن تجد قيمنا الإسلامية في مجتمع غير مسلم. نحن أولى بألا نبرر أخطاءنا. ونحن ـ وانطلاقاً من تعاليم ديننا ـ أولى أن نكون أول من يعترف بالخطأ. وصدقوني أن الفرد منا في مجتمعه الخاص أو في عمله يحظى بالتقدير والاحترام وكسب الثقة عندما يكون أول من يقول: "إنني أخطأت". فلسنا رسلاً أو ملائكة. وخلاصة القول، لماذا نخجل من الخطأ ونبرره، ونعلم ناشئتنا هذا السلوك دون وعي منا؟ لماذا نشعر بالزهو والانتصار عندما ننجو بمراراتنا من خطأ ارتكبناه؟ وكيف نشعر داخل أنفسنا عندما نواجه أنفسنا بأننا نجونا من الخطأ بمبررات زائفة؟ هل نستطيع أن نتعايش مع أنفسنا ونحن نعلم يقينا سوءها؟ وفي منازلنا يجب أن يعرف أطفالنا أننا بشر، والبشر يخطئون، وأنه لا عيب في ذلك، وأن نعلمهم أن الخطأ له فوائد كبيرة، لأنه يعلمنا الصواب. ونعلمهم أن احترام الذات واحترام الآخرين لنا يزداد عندما يدركون أن لدينا قيما سامية، ومنها الاعتراف بالخطأ والتعود على هذه القيم وممارستها طوال حياتنا في منازلنا وفي كل تعاملاتنا. والأهم من ذلك ألا يجدوا تناقضا بين ما نقول لهم ونربيهم عليه وبين ما نفعله.

ما أقوله لا يمكن تحقيقه بالسهولة التي أطرحه بها. و لا أريد أن يفهم أنني أسطح موضوع تكريس ثقافة الصدق للتخلص من ثقافة "التبرير"، فالأمر ليس سهلا، خاصة في عصرنا الحاضر الذي تبدل فيه مسرحنا المجتمعي وتغير وتعقد. فصحيح أن ما يتعلمه الطفل في المنزل، يجد ما يناقضه في الشارع، وما يتعلمه في المدرسة يجد ما يلغيه في وسائل الاتصال الحديثة من الفيس بوك وتويتر واليوتيوب، واتصاله مع الآخرين عبر الإنترنت. ولهذا يجب علينا كآباء ومربين أن نسبر عقول أطفالنا لنعرف القيم السيئة التي اكتسبوها من مصادر سيئة، فليس هناك مكان للقيم الفاضلة في ظل وجود قيم سيئة، أو أن القيم السيئة قد تكون أقوى من القيم الفاضلة فتنسخها.

مجتمعنا لا يستحق هذه الثقافة وتخليصه منها مسؤوليتنا جميعا. المسؤول أمام موظفيه والوالدان أمام أولادهم، والتربية في المدارس أطراف مسؤولة عن تخليص المجتمع من هذه الثقافة.