قراءة الأرقام فن لا يجيده إلا المتخصصون، ومؤسسة جالوب Gallup واحدة من الشركات الرائدة في مجال استطلاعات الرأي العام والبحوث والاستشارات التنظيمية. هذه المؤسسة تعمل حاليا تحت قيادة جيم كليفتون Jim Clifton رئيس مجلس إدارتها ورئيسها التنفيذي. حققت مؤسسة جالوب في السنوات الماضية توسعا كبيرا من شركة مقرها الولايات المتحدة إلى منظمة عالمية مع 40 مكتبا في 30 دولة ومنطقة. مقالتي هذه حول كتاب أصدره مؤخرا "جيم كليفتون" بعنوان "حرب الوظائف القادمة" والذي استند فيه على خبرة أكثر من 75 سنة لشركة جالوب في استطلاعات الرأي حول العالم.
محور الكتاب أن حربا جديدة ستدور رحاها في القريب حول "الوظائف الجيدة". يقول كليفتون إن ليس هناك شيء سيصلح أحوال العالم الذي نعيشه سوى طرح 1.8 مليار "وظيفة رسمية" جديدة. وهنا يفرق كليفتون بين الوظائف "الرسمية" و"غير الرسمية"، ويقول إن قيادات العالم يجب أن تعي ذلك وأن تفرق بينهما، لأن الوظائف غير الرسمية لا تدوم كثيرا ولا تدر عائدا جيدا ومستمرا وتسهم مباشرة في ضرب عمق الاستقرار النفسي للبشر وانسداد الأفق وضخ المزيد من أعداد البؤساء وفاقدي الأمل.. وفي نهاية المطاف معاناة بشرية حول العالم. ويضيف أن الوظائف الموجودة في الدول النامية وبالكاد تؤمن حد العيش والكفاف ولا تنتج طاقة اقتصادية تستفيد منها مجتمعاتهم.
حسب الإحصائيات التي أوردها كليفتون يقول إن الـ 7 مليارات فرد الذين يعيشون على وجه الأرض منهم 5 مليارات فرد أكبر من 15 سنة، ومن هذه الـ 5 مليارات هناك 3 مليارات يعملون أو يرغبون في العمل. المشكلة – كما يراها كليفتون - تكمن في أن هناك حاليا حوالي 1.2 مليار "وظيفة رسمية" حول العالم، مما يجعلنا بحاجة إلى 1.8 مليار فرد يحتاجون إلى وظيفة جيدة (رسمية) لإصلاح مستوى معيشتهم.. وإن لم نفعل ذلك فإن هناك إمكانية حدوث قلاقل وعدم استقرار وقلق اجتماعي كبير جدا بين الـ 1.8 مليار فرد. هذا الرقم يقارب ربع سكان العالم ممن سيشعلون حربا للحصول على "الوظائف الجيدة".
ندرة هذه الوظائف اليوم ستكون سببا رئيسا في اندلاع المشاكل والمجاعات والتطرف واتساع الفجوة وعدم التوازن. ويقول إنه وجد - من خلال استقصاء الرأي العام العالمي - أن الجياع من سكان العالم ـ يفكرون في أشياء تختلف كثيرا عما تفهمه وتذكره معظم الحكومات والوكالات والمنظمات غير الحكومية.. وفي الوقت الذي يسارع فيه العالم المتقدم لمدهم بالغذاء والدواء، فإن معظمهم يشعرون أن الحل الحقيقي يكمن في إيجاد "وظائف جيدة" لهم. وبناء عليه، يري كليفتون أن مسؤولية جديدة قد أضيفت إلى قادة الدول، بحيث يكون "توفير وظائف جيدة" مهمتهم الأولى وهدفهم الرئيس، لأنها أصبحت المعيار الحقيقي لنجاح القيادات. ويرى أن المستقبل القريب لن يكون فيه مكان للقيادات التقليدية التي تعتمد وترتكز على السياسة والقوة العسكرية والقيم، ولابد من قيادات تجيد التفكير في خلق "الوظائف الجيدة".. الفشل في ذلك يعني مجتمعا فاشلا ودول فاشلة.
بعض المجتمعات اليوم لم تعد مقتنعة بما يدور حولها.. هم فقط يريدون وظيفة جيدة تؤمن لهم حياتهم وعافيتهم واستقرارهم النفسي. ويؤكد كليفتون أن العلاقة بين الناتج المحلي الإجمالي ونمو الوظائف علاقة جذرية... إنها كالعلاقة بين الدجاجة والبيضة الواحدة تصنع الأخرى.. ودون واحدة منهما تموت الأخرى.