يقول جوزيف بيير برودون: "إن كمال المجتمع في أرقى أشكاله يكون باتحاد النظام مع الفوضى"..

أعتقد أن هذه العبارة تحديدا هي من أدق ما عبر عنه فلاسفة السياسة والقانون، ولا أدل عليها من صلاة الجماعة في الحرم المكي حين تتحول فجأة كل التحركات وكل الاتجاهات وكل التباينات إلى حلق دائرية غاية في النظام والتحرك المتسق حول الكعبة، كل يعرف مكانه واتجاهه بمجرد أن يسمع تكبيرة الإحرام.

ومن المفترض أن يكون الحج دلالة أخرى على صحة هذه العبارة ودقة معناها، ولكن ليكون الحج كما الصلاة في الحرم من حيث اتحاد النظام مع اختلاف الاتجاهات فلا بد من وجود أنظمة وقوانين واضحة المعالم تعين الحجاج والقائمين على خدمتهم أن ينتظموا في عقد واحد محولين اختلاف الاتجاهات التي تفرضها طبيعة التمازج والكثافة العالية في مكان ضيق في فترة زمنية قصيرة إلى نموذج مثالي من التناغم والنظام تماما كما رأينا في تحول الجمرات من حال إلى حال بموجب التوسعة والتنظيم الرائع.

قمت خلال الفترة الماضية ببحث صغير في الأنظمة السعودية المتعلقة بالحج فوجدت حقيقة أن العديد من الأنظمة يأخذ بعين الاعتبار طبيعة كون المملكة راعية لهذا الموسم الإسلامي العظيم الذي يعد محورا أساسا في حياة كل منا، وبعض هذه الأنظمة مصاغ صياغة جيدة تفي بغرضها في مجالها، فعلى سبيل المثال، نجد أن المادة الرابعة والعشرين من النظام الأساسي للحكم تبين بوضوح مسؤولية الدولة عن رعاية الحرمين الشريفين وخدمة الحجاج والمعتمرين والزوار، إذ جاء في نص المادة: "تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة".

والحقيقة أن كل مواطن يأخذه شيء من الإعجاب بهذه التوسعات المتتالية للحرمين الشريفين لاستيعاب المزيد من القاصدين وخدمتهم بما ييسر لهم أداء شعيرتهم بيسر وطمأنينة، وليست التوسعات استثناء بل أساس ترد بناء عليه واتساقا معه التوجيهات لكل القطاعات ذات العلاقة في الدولة بأن تبذل قصارى جهدها بما يحقق الغرض.

يبدو لي أن هذه الجهود تحتاج إلى مزيد من التنسيق فيما بينها من خلال قانون موحد للحج يجمع بين طياته شتات الأنظمة والتنظيمات واللوائح المرتبطة بالحج والعمرة والزيارة، بحيث يوحد المرجعية النظامية ويزيل عنها اللبس والتداخل والتباين، وبحيث يوضح الصلاحيات فيزيد مستوى التناغم والانسجام بدلا من التنافس والتباين الحاصل في بعض الجزئيات حاليا.

للتمثيل على ما أقول نجد أن نظام نقابة السيارات قد صدر عام 1372هـ (أي قبل ستين عاما) وآخر تعديل على بعض مواده جاء عام 1425هـ (وفقا لموقع هيئة الخبراء بمجلس الوزراء) والنظام مازال في نسخته السارية يشير إلى ارتباط النقابة بالمديرية العامة للحج والإذاعة، وباستقراء مواده نجد أنها مُحكمة، ولكنها ليست بالضرورة متسقة مع الوضع الحالي للحج والعمرة. أيضا نجد أن النظام الصحي ينص في المادة الرابعة عشرة على أن تقدم الرعاية الصحية للحُجاج خِلال فترة الحج، وفقًا للائحة يضعُها الوزير، وهذا أمر ممتاز، ولكن لا بد أن يتم تنسيق هذه اللائحة مع بقية الأجهزة ذات العلاقة بما فيها الدفاع المدني والمرور والشؤون البلدية والقروية، وذلك لتنسيق الجهود حتى لا تأتي النتائج قاصرة عن الهدف المأمول.

ذات الأمر ينطبق على نظام خدمة حجاج الداخل وما ورد فيه من نصوص متعلقة بالحملات والتصاريح والمواقع، ومن الغريب أن النظام مازال ينص على تسليم المواقع في شهر ذي القعدة وهو ما تطبقه الوزارة حاليا، مما يشكل ضغطا عاليا على الحملات وأصحابها للقيام بالمهمة بإتمام إنشاء مخيماتهم قبل يوم الثامن من ذي الحجة وفقا لمعايير سلامة مقبولة تضمن سلامة الحجاج وأيضا معايير ضيافة تضمن طمأنينة الحجاج. ولا أدري حقيقة إن كانت هنالك اشتراطات سلامة يشرف عليها الدفاع المدني، فالمخيم الذي حججت فيه هذا العام كان من فئة (أ) ولديه ألف ومائتا حاج نساء ورجالا، وكلهم لهم مدخل أو مخرج واحد في آخر المخيم، وممر ضيق بالكاد يسير فيه ثلاثة أشخاص في اتجاه واحد ولم يكن هنالك منفذ طوارئ، علما بأن مطبخ الحملة كان ضمن المخيم، وهذا ليس استثناء بل هو السائد في الحملات.

قطار المشاعر يخضع بدوره لوزارة الشؤون البلدية والقروية، بما في ذلك العلاقة مع الشركة المشغلة، وما رأيناه في الحج لم يكن يدل على أن مستوى التنسيق مقبول ما بين القطار والدفاع المدني ووزارة الصحة ووزارة الحج من حيث توقيت الرحلات ومستوى التواجد وتغطية الخدمات وتنسيق عمليات الطوارئ في حال ما يدعو لها. أخيرا؛ وهو الأهم لم أجد في شتات الأنظمة المعنية بالحج ما يعني الحاج ذاته باعتباره المستهلك الأهم دينيا وسياحيا واقتصاديا في المملكة. فليس هنالك نظام معين لحمايته فيما يتعلق بحملات الحج ولا الإسكان ولا نشرات توعوية بما يتعلق بحقوقه وكيفية المطالبة بها، وليست هنالك جهة محددة ترفع لها هذه الشكاوى أو موقع على النت تعبأ فيه نماذج الشكاوى بآلية متابعة محددة وواضحة المعالم، في حين تعالج القضايا وفقا لجهات الاختصاص.

أتمنى من خالص قلبي أن تبادر اللجنة العليا للحج بحكم اتصالها بهذه الجهات في مجموعها واضطلاعها بالإشراف العام على سير موسم الحج بالمبادرة لاقتراح صياغة نظام شامل بحيث يجمع شتات الأنظمة المتعلقة بالحج ويؤطر العلاقات بين الجهات المختلفة المعنية بالحج وشؤونه بما يحقق ما ورد في النظام الأساسي للحكم باعتباره هدفا غائيا من العناية بالحرمين وهو "أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة".