النقطة الأولى:

كنت واحداً من ثلاثة ملايين إنسان وأكثر ممن تيسر لهم حج هذا العام.

كنت أنا وزوجتي وبناتي مع هذا الحشد الملاييني المبارك الذي تروى في منى ووقف في عرفة ثم أصبح من الغد وأضحى على عيد الأضحى.

وكنت ممن فدى أو أهدى وطعم وأطعم ثم رمى الجمرة الكبرى ثم أعقبها في اليوم التالي برمي الجمرات الصغرى والوسطى والكبرى، ثم كنت ضمن الملايين المودعة أطوف وأسعى بالبيت العتيق. لقد أمضيت أسبوعاً روحانياً حافلاً بالدعوات والركعات والسجدات والعبرات. وقد سبحت خلال هذه الأيام الوجيزة في فلك التبتل والخشوع حتى شعرت كما لو أنني غادرت فلك الدنيا وهمومها وغمومها وصغائرها ومشاحناتها إلى عوالم الصفاء والنقاء والترفع والتطلع إلى الأعلى والأسمى والأنقى والأتقى مما هو خير وأبقى. ها هو الحاج الذي غادر أهله ومدينته يموج في بحر من التقشف والزهد والتبسط بعد أن ترك خلفه الشهوات واللذائذ والمغريات ولبس أرخص وأيسر الأردية، يسأل الله العفو والمغفرة مما ابتذل من المعاصي وما تنكب من الذنوب خلال انغماسه اليومي ولهاثه الذي لا ينقطع سادراً في الغي. تأتي مثل هذه المناسبات الدينية لتوقظ عندنا ما غفلنا عنه من الذكر، وما نعسنا فيه عن الحمد والشكر. وحري بفطنة المسلم الهميم الجاد في تحصيل ما عند الله من النعم المعجلة والمؤجلة أن يتواصل مع ربه من خلال ارتياد مجالس الذكر والدعوة التي تجلو صدأ القلب وتنقي سريرته.

النقطة الأخرى:

ما عليك سوى أن تتخيل أن سكان ثلاث دول خليجية قد جاؤوا بقضهم وقضيضهم ونزلوا عندك ضيوفاً برجالهم ونسائهم وكبارهم وصغارهم.. الجاهل منهم والأمي والمرضى والأصحاء. وعليك أن تكبر زاوية النظر وتتخيل كيف أن أكثر من ثلاثة ملايين إنسان قد جاؤوا بلغات شتى وثقافات مختلفة وعادات متباينة ومستويات علمية متأخرة، ثم أن عليك أن ترعى هذه الفروقات الكبيرة والاختلافات الشاسعة في أيام معدودة ومساحات محدودة، ثم تخيل كيف يوفقك الله لتسيطر على كل هذه التباينات الثقافية والعرقية، وأن تسيطر في نفس الوقت على كل احتمالات الخطر من خصام وعراك وحرائق ومفاجآت ليست على البال، وأن يوفقك الله في تفويج هذه الحشود في خريطة واحدة، مسالكها واحدة، ومسارها ثابت، فلو تغير هذا الاتجاه بمزاج شخصي أو بسبب جهل لحصل التدافع البشري مما يسبب الوفيات، لكن موسم حج هذا العام رغم أن عدد الحجاج فاق كل السنوات الماضية جاء ناجزاً وناجحاً دون أي حوادث دراماتيكية، لكن مع ذلك فقد حاول البعض التقليل من هذا النجاح وتجريح هذا الإنجاز التنظيمي الفائق لمجرد أن حصل شيء من الاكتظاظ والتزاحم خلال النفرة من عرفات باتجاه محطة القطار. ولأنني أحد شهود هذا الحدث فإن ما جرى من خلل تنظيمي هو ما أسهم في هذا التأخير، لكن رغم كل شيء لا يقارن بزمن الانتظار الطويل الممل والممض الذي كان يتعرض له الحجاج خلال نفرتهم بالحافلات في سنوات ما قبل قطار المشاعر. إن أسوأ الآراء هي التي تتكئ على الانفعال أو أولئك الذين هم خارج مكة ومع ذلك يتناقلون الروايات والإشاعات والكلام بلا تمحيص أو تدقيق، إنما يتمثلون منهج أولئك الذين يقولون "سمعتهم يقولون شيئاً فقلته" إنهم يرددون ما يسمعون بلا توثق، وإلا ما كان أغنى عنهم أن يحمدوا الله على التوفيق وهذا النجاح الذي يتصاعد في موسم الحج عاماً بعد الآخر، وهو إنجاز يحسب لهذا الوطن الكريم وأهله الذين أخذوا على عاتقهم هذا الشرف بالرفادة والسقاية والحماية لهذه الأفواج المتقاطرة من المشارق والمغارب. وعلينا أن نحمد الله على هذا التشريف والتكليف الإلهي.