بدأت الوزارات والأجهزة الحكومية باستخدام نظام البصمة الإلكترونية لإثبات حضور وانصراف الموظفين في دوامهم الرسمي، ويأتي تطبيق هذا النظام بناءً على توصيات هيئة الرقابة والتحقيق، والتي أكدت على أهمية البصمة في منع هدر المال العام جرّاء التسيب والغياب المتكرر للموظفين.

واللافت للنظر في هذا الموضوع هو رفض واستياء عدد من الموظفين في الجهات الحكومية بسبب تطبيق البصمة، وقد ثار جدل كبير عندما شاع خبر قيام وزارة التربية والتعليم بتطبيق النظام في مدارس التعليم العام، وبالرغم من نفي الوزارة لهذا الخبر، إلا أن هناك ترقبا وخوفا ومقاومة لمثل هذه القرارات من قبل بعض المعلمين والمعلمات.

وتتمثل هذه المخاوف من وجهة نظر البعض في أن أجهزة البصمة لها مخاطر صحية وتؤدي إلى الإصابة بالسرطان والأمراض الجلدية، والبعض الآخر يرى أن هناك تحيزا وظلما للموظفين بسبب استثناء موظفي المراتب العليا من البصمة.

وهناك من يستنكر مثل هذه المبررات ويقول إنها مجرّد أعذار واهية ليس لها تفسير سوى أنها صادرة من الموظفين الكسالى والمتسيبين، لأن تطبيق البصمة سوف يفضح ويكشف أمرهم!.

ولكن ماذا يقول أصحاب الرأي السابق عندما يعلمون أن غالبية من رفض تطبيق البصمة هم من الموظفين المنضبطين في الدوام ومن أصحاب الكفاءات؟، بالإضافة إلى أن المشكلة الحقيقية لا تتعلق بأشكال ضبط الحضور والانصراف سواء كان يدوياً أو إلكترونياً بالرغم من مميزات التقنية والمتمثلة في زيادة الدقة والرقابة.

فضبط الدوام ليس معضلة كبرى، كما يتصور البعض، و صمت هيئة الرقابة والتحقيق عن تبيان حقيقة المشكلة، يثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام، فالهيئة خلال السنوات الأخيرة ومن خلال جولاتها الميدانية استطاعت إلى حد ما ضبط الحضور والانصراف من خلال البيانات والكشوفات الورقية ولكن ماذا كانت النتيجة؟!.

النتيجة هي وجود انضباط صوري وشكلي في الحضور والانصراف، مع نزع صلاحيات وسلطات الرؤساء المباشرين في الإدارات التنفيذية، وزيادة التسيب الإداري وبالتالي فإن البصمة الإلكترونية لن تغير من الوضع شيئاً، فالتوقيعات ستبرزها السجلات الإلكترونية وسوف تكون مطابقة للمواعيد المحددة، فالموظف قد يأتي في الوقت المحدد لبداية الدوام و يترك أداء المهام الموكلة إليه، ويلقي بها جانباً، وينصرف إلى مكاتب أخرى داخل الجهة الحكومية ليتجاذب أطراف الحديث مع بعض زملائه لقتل الوقت، أو ينصرف إلى خارج الجهة لمصالح خاصة به، ثم يأتي قبل موعد الانصراف لكي (يبصم) على الجهاز ويظهر بأنه انصرف في الموعد المحدد.

بالإضافة إلى ما سبق، هنالك سؤال دائماً يتكرر على الأجهزة الرقابية بما أنه يوجد تسيب وعدم انضباط في الحضور والانصراف فأين العقوبات والجزاءات المقررة نظاماً، فلماذا لا تطبق؟.

والإجابة كما ذكرت آنفاً، هي أن الهيئة غير قادرة على تطبيق العقوبات بسبب السلامة القانونية لهذا التسيب، ومنسوبي الهيئة يدركون ذلك جيداً، لذا هناك فجوة نظامية لم تعالج ولم يتم الاهتمام بها، هذه الفجوة تتعلق بكيفية أداء العمل داخل الجهات الحكومية وما يرتبط بها من صلاحيات ومسؤوليات.

ويشار هنا إلى أن السبب الحقيقي الذي يقف وراء رفض بعض الموظفين لنظام البصمة، يتمثل في الخوف من جمود وعدم مرونة النظام، الذي يرون أنه سوف يحد من صلاحيات وسلطات الرؤساء المباشرين.

فحسب نظام الخدمة المدنية، فإن من مسؤولية وصلاحيات الرؤساء المباشرين ضبط الحضور والانصراف وما يتعلق بهما من استئذان أو تكليف بمهام العمل والإجازات وكذلك معالجة حالات التأخر، وهذه الصلاحيات في بعض الجهات الحكومية تكاد تكون منزوعة تماماً من بعض الرؤساء، مما قيّد سلطاتهم التي كفلها لهم النظام، وتم تجميع هذه الصلاحيات في إدارات المتابعة وشؤون الموظفين مع بقاء المسؤولية على هؤلاء الرؤساء، ولا تستثنى من ذلك أيضاً صلاحية تقييم الأداء للموظف، لذا نجدهم يقفون عاجزين أمام حل مشاكل مرؤوسيهم، مما زاد ذلك في ظاهرة التسيب الإداري وانعدام الصف الثاني في القيادات الإدارية، وبالتالي فإنه عند تطبيق البصمة سوف نزيد من مركزية الصلاحيات السابقة وخاصةً في ظل غموض وعدم وضوح لوائح وسياسات العمل المتعلقة بالحضور والانصراف وساعات العمل الفعلية، فالعديد من الموظفين يتساءلون عن كيفية الاستئذان والتكليف بالعمل الميداني وعن حالات التأخر الخارجة عن الإرادة في ظل تطبيق نظام البصمة الإلكترونية؟ وهل هي من صلاحيات إدارات المتابعة وشؤون الموظفين أم الرؤساء المباشرين؟.

بالإضافة إلى ما سبق هناك مشكلة أخرى تتعلق بمسألة الحضور والانصراف في الجهات الحكومية أو بمعنى آخر التسيب الإداري، فمسألة الانضباط في الوقت المحدد في الدخول والخروج يمكن التحايل عليها في ظل غياب الصلاحيات والسلطات الإدارية، وتبقى المشكلة في عملية أداء المهام، وفي هذا الصدد يقول علماء الإدارة : "وصول الرئيس أو المسؤول الأول في الجهة في الموعد المحدد يضمن وصول باقي الموظفين في الموعد، وبقاؤه إلى نهاية الوقت المحدد كفيل ببقاء الجميع"، فعند حضور المسؤول الأول في الجهة مبكراً فهذا يعني حضور المدير العام ومساعديه في التوقيت نفسه، وبالتالي حضور الموظفين التنفيذيين في الموعد المحدد، وبالطبع فإن هذا الحضور يتطلب أداء المهام وإنجازها في الوقت المطلوب عندها يضطر المسؤولون إلى تفويض الصلاحيات للرؤساء المباشرين.

وللأسف الشديد فإن في بعض الجهات الحكومية تسيبا في الإدارات العليا نفسها ونظراً لغياب الصف الثاني للقيادات الإدارية أو ضعفها بسبب مركزية تفويض الصلاحيات، فإنه في ظل تأخر أو غياب المسؤول الأول يؤدي إلى تعطل الأعمال والمهام، وبالتالي عدم المبالاة من قبل الموظفين، ناهيك عن وجود نوع من الإحباط والذي يؤدي إلى التهرب الوظيفي، لذا فإن الأسوة الحسنة مهمة جداً في عملية الانضباط الإداري.. ولكن من يطبق؟