لم يعد موضع جدل انتهاء حقبة الأحادية القطبية، وبروز ملامح نظام كوني جديد، بعدة أقطاب برز في تبني روسيا والصين سياسات متناقضة وبالضد من السياسات الأمريكية. وتوج ذلك بتشكيل منظومة البريكس. ومن شأن هذه التحولات أن تغير موازين القوى الدولية، وأن تحدث تحالفات جديدة، غير تلك التي سادت عقب انتهاء الحرب الباردة، وتربع الولايات المتحدة، كقطب أوحد في صناعة السياسة الكونية.

ليس هدفنا تناول معالم التحول في موازين القوى الكونية، فقد بدأنا رصده منذ احتلال العراق، عام 2003، الذي مثل أقصى ما بلغته الإدارات الأمريكية من تفرد في صنع القرار، حتى وإن اقتضى ذلك، الخروج على المؤسسات الدولية، وتبني قرارات خارج منظومة القانون الدولي، ومفهوم السيادة ومبادئ حقوق الإنسان. ومؤخرا برز الدب القطبي والتنين الصيني، كعملاقين فاعلين في السياسة الدولية، وبشكل خاص في صناعة القرار بمجلس الأمن. المقصود هنا، أن النظام الدولي، قد أعيد تشكيله، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا ثلاث مرات. المرة الأولى، بدأت بترتيبات نهاية الحرب العالمية الثانية، واتفاقية يالطة، بين القطبين السوفييتي والأمريكي. وعبرت عن نفسها بصدور ميثاق الأمم المتحدة، وهيمنة القوى العظمي، ممثلة في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا، على صنع القرار بمجلس الأمن، من خلال احتفاظها بعضوية دائمة فيه، وأيضا من خلال حيازتها لحق النقض.

في هذه الحقبة، برز النووي لأول مرة في التاريخ، كسلاح رعب مهدد بفناء البشرية جمعاء. وكان تعادل القوتين الأمريكية والسوفييتية في اقتناء هذا السلاح الفتاك، قد نصبهما قوتين عظميين على العالم. وتحول هذا السلاح لاحقا، بعد تجربته في هيروشيما ونجازاكي، باليابان إلى سلاح ردع، ليس بإمكان أي قوة المجازفة باستخدامه. وكانت مرحلة الخمسينات والستينات قد شهدت نداءات لنزع هذا السلاح من كوكبنا الأرضي، وطرحت بقية مبدأ التعايش السلمي بين الأمم، لكن تلك النداءات ذهبت أدراج الرياح. وتضاعفت ترسانة القوى العظمي من هذا السلاح، بما يهدد بفناء كوكبنا الأرضي عشرات الأضعاف، لكن استعماله في المواجهة العسكرية، واستخدامه ظل في قائمة المحرمات. وتميز تلك الحقبة بتعدد قنوات الصراع، فهو صراع عقائدي بين نهجين في الحكم، وهو صراع اقتصادي بين نظامين، وهو صراع بمدلولات سياسية، مصحوب بجموح عسكري من مختلف فرقائه للهيمنة على مساحات أوسع من الأراضي والثروات. وضمن معالم هذه المرحلة، وجود حلفين عسكريين، حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي، ويمثل تحالف الشيوعيين، الذين ظلوا لأكثر من أربعة عقود تحت حماية المظلة النووية السوفييتية. وحلف الناتو، ويشار له أحيانا بحلف الأطلنطي، وبموجبه استمرت أوروبا حتى يومنا هذا تحظى بحماية المظلة النووية الأمريكية. وفي الوسط بينهما، نشأت كتلة عدم الانحياز، التي أعلنت كقوة محايدة، ترفض سياسة الأحلاف، ولا تتبع أيا من القوتين العظميين. لكن هذه الكتلة تحولت في نهاية المطاف، إلى تجمع فضفاض يضم قوى منحازة لإحدى الكتلتين. وخلالها ساد ما عرف بالحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان، حيث لا مواجهة عسكرية مباشرة، بينهما بل حروب بالوكالة.

بسقوط جدار برلين، وتهاوي الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، انتهت الحرب الباردة، وسقط حلف وارسو، وتربعت الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية. تراجع دور روسيا، وغاصت في فوضى، لم يسبق لها أن شهدتها منذ سقوط نظام القيصر، أثناء اشتغال الحرب العالمية الأولى. وبقيت كتلة عدم الانحياز، اسما دون مسمى، ومن غير مضامين. وبدا وكأن العالم يسير بوتيرة واحدة، ونظام سياسي واحد. وخلالها شهد الاقتصاد الحر عصره الذهبي، حيث السيطرة محكمة على المؤسسات والمصارف المالية الدولية. وبرزت منظمة التجارة الدولية، ومفهوم العولمة لتعكس الاتجاهات العالمية في تلك الحقبة الحساسة، التي شهدها عقدا التسعينات من القرن المنصرم والعقد الأول من هذا القرن.

والآن نشهد تكون النظام العالمي الثالث، الذي يتشكل بعد نهاية الحرب العالمية الثالثة، بمضامين وتوجهات ورؤى وتحالفات مختلفة، على كل الأصعدة، ستتضح معالمها بجلاء خلال السنوات القليلة القادمة.

خلال ما يقرب من سبعة عقود، مر الوطن العربي بنظام يتيم، عبر عن نفسه بتأسيس جامعة الدول العربية، التي نشأت قبل استقلال معظم الدول العربية، حيث لم يتجاوز عدد الموقعين على ميثاقها غداة لحظة التأسيس السبع دول هي السعودية ومصر واليمن وسورية ولبنان والأردن والعراق.

استقلت دول كثيرة، والتحقت بميثاق الجامعة، وأصبحت عضوا فيها. وخلال السبعة عقود التي مضت سالت مياه كثيرة. تغير الكون من حولنا عدة مرات وبقينا نحن، بل بالأحرى بقي النظام العربي الرسمي دون تغيير. وكانت المرحلة الأولى من تأسيسه قد دشنت آمالا كبيرة، بأن يدشن الميثاق تضامنا عربيا حقيقيا، يؤدي إلى تحقيق تكامل اقتصادي وثقافي واجتماعي بين البلدان العربية. وكانت تباشير هذا الحلم قد برزت بتحالف بعض العرب ضد سياسة الأحلاف، حيث جرت المطالبة بتبني سياسات مستقلة، تراعي مصالح الأمة، وتضع في المقدمة منها مصلحة الشعوب العربية.

وخلال مرحلة الخمسينات، تضامنت جهود الدول العربية المستقلة، لمناصرة الشعوب التي كافحت ضد الوجود الاستعماري في معظم البلدان العربية، وفي المقدمة منها دعم الشعب الجزائري لنيل استقلاله عن الاستعمار الفرنسي. وفي العدوان الثلاثي على مصر، فتحت المملكة مطاراتها واستقبلت الطائرات المصرية التي لجأت إليها، وقدمت مختلف أشكال الدعم للأشقاء في مصر.

وخلال مرحلتي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، ظلت فلسطين، قضية العرب المركزية. وأكد العرب تضامنهم عند كل نازلة تصيب أي بلد من بلدانهم. لكن ذلك لم يعبر عن نفسه في تحقيق التكامل الاقتصادي بين العرب. بل إن المراحل اللاحقة شهدت حربا باردة عربية- عربية، عطلت من تحقيق الحلم الجميل في وحدة العرب. كما بقيت مواثيق الجامعة العربية، بما في ذلك ميثاقها الأساس، ومعاهدة الدفاع المشترك، والأمن القومي الجماعي حبرا على ورق. وغدت جامعة الدول العربية عبئا مضافا، تترجم في سكونها وضعفها عجز الأمة، عن تحقيق التنمية.

هل ستكون المتغيرات الكونية دافعا لإعادة صياغة مواثيق الجامعة وهياكلها، لتلبي الأهداف المأمولة أم أنها ستستمر في غيبوبتها، ليصبح العمل العربي المشترك خارج التاريخ؟! الإجابة أمام النظام العربي الرسمي، وليس بوسعنا سوى الانتظار.