فجأة ودون مقدمات لم يحضر "مارك" محاضرة "الإحصاء الحيوي"، وهو الطالب المجتهد الذي يحضر أولاً ويغادر بعد الجميع، فضلاً عن روحه المرحة واهتمامه بالجميع، ولم تكد المحاضرة تنتهي حتى توجهت لزميل أميركي آخر وسألته عن سبب غيابه، ليخبرني أن والد "مارك" قد توفي، وأنه مشغول بترتيبات الجنازة والدفن.

قررت على الفور حضور مراسم الدفن وتقديم العزاء، كونه من الأخلاق وعمق الصداقة تعزية رفيق الدراسة، وإظهار مشاعر المشاركة والحزن، وكذلك كانت فرصة – لا تعوض- للاطلاع على مراسم الجنازة على الطريقة الأميركية بشكل حقيقي، وليس عن طريق مشاهدة الأفلام، أو غير ذلك.

في اليوم التالي، وقد حددت مراسم الدفن في المقبرة المحلية: مقبرة "القديس يوحنا" بمدينة "Ypsilanti" (شرق جنوب ولاية ميشتغان الأميركية)، وهي مقبرة مترامية الأطراف، يغطيها بساط أخضر ممتد، وبضعة أشجار معمرة، وفي زاويتها القصية بحيرة صغيرة متعرجةً، حتى إنك لتخالها حديقة عامة من جمالها وروعة أرجائها، وسهولة الوصول لها، فضلاً عن الشواهد الرخامية المنتصبة عند كل قبر، المهم.. اجتمع أقارب وأحباء الفقيد في الكنيسة القريبة من المقبرة، وبدأت المراسم بصلاة قصيرة من "العهد الجديد"، ثم دعا القس ابنة الفقيد البكر للحديث عن والدها، كونها الأقرب له، ثم توالت الكلمات وتنوعت، ما بين صديق عمر، وزميل عمل، ولقد كانت كلمات الزوجة، وقد رافقت زوجها أكثر من أربعين عاماً؛ رائعة تفيض حباً وروحانيةً، زينتها بذكر قصص وذكريات، من شهر عسلهما، ومروراً بموجات نجاحهما وفشلهما، وحتى دخوله المستشفى قبل أسابيع قليلة، وخلال هذه الكلمات كان جثمان الفقيد مجثى داخل تابوت من خشب فاخر، وقد ارتدى أجمل ملابسه، وذلك لإتاحة الفرصة لأحبائه نحو اقتناص النظرة الأخيرة قبل توريته الثرى.

بعد ذلك قام متعهد الدفن "الحانوتي" بنقل التابوت إلى القبر المحدد مسبقاً، من قبل إدارة المقبرة، وأنزل التابوت بواسطة رافعة رباعية أوتوماتيكية، ثم دفع التراب فوق التابوت بكل سهولة وانسياب، وخلال لحظات أغلق القبر، وانتقل الحضور إلى سياراتهم، تمهيداً لتناول العشاء في منزل الفقيد، بعد دقائق معدودة كان الجميع قد التم شمله، وبدأ توزيع الطعام، والذي كان عبارة عن أطباق بسيطة أحضرها الجميع معهم، ذلك أن أهل الميت منشغلون بالحدث، وليس لديهم الوقت لترتيب العشاء، تماماً مثلما يحدث في مجتمعنا السعودي المسلم، الفرق هنا هو البساطة والشعور بالمشاركة من الجميع، وليس فقط أن يتولى فردٌ واحدٌ ترتيب طعام الغداء أو العشاء لأهل الفقيد، ويتكلف في ذلك، وتذبح الخراف وتمد الموائد، وكأنما أنت في فرح وليس في ترح!

خلال رمضان الماضي حضرت ثلاث جنائز، في ثلاث مقابر مختلفة في مدينة الرياض، هي مقبرة "النسيم"، ومقبرة "أم الحمام"، ومقبرة "الدرعية"، وبقدر ما كانت أشعة الشمس الحارقة تلسعنا بشدة، كانت تلكم المقابر تعاني من الإهمال وسوء الإدارة، صحيح أن سوراً مبنياً من قبل أمانة المدينة كان يحيط بها، لكنه للأسف لم يمنع من تدهور حال القبور، ناهيك أن كثيراً من المقابر خارج المدن الكبرى تعاني من عدم وجود سور يحيط بها، أو بوابة تمنع دخول الحيوانات الضالة، الأمر الذي ينتهك حرمة الميت المسلم.

الأسوأ من كل هذا هو عدم وجود نظام إلكتروني جغرافي بسيط يحدد قبر الميت، وتاريخ دفنه، وكافة المعلومات الأخرى، فللأسف يقوم أهل الفقيد بالرسم أو الكتابة على القبر أو حتى وضع علامة فارقة، حتى يستطيعوا زيارته من جديد!، وهو ما يتعارض في جانب منه مع أحكام الشريعة الإسلامية، والتي تحرم رفع القبر أو تميزه بطريقة لافته، المأساة تجلت عندما تحدثت مع أحد الأصدقاء ممن حاول زيارة قبر والدته، وقد دفنت قبل ثلاثة أسابيع، لكنه لم يستطع ذلك، نظراً لأنه لا يعرف قبرها بالتحديد! فلقد كان مشغولاً بعملية الدفن، وتلك قصة أخرى، حيث تتم عملية دفن الميت في مقابرنا بطريقة بدائية، لم تتغير من سنوات طويلة، دونما مشاركة فعالة من العمالة الموجودة في المقبرة، أو الإشراف المباشر من قبل إدارة المقبرة، والكثيرون يديرون عملية دفن فقيدهم اجتهاداً دونما سابق علم أو خبرة، مما يضيع الوقت والجهد، وقد يقعون في محظور شرعي دون علم منهم، كما أن الحرارة الشديدة فرضت على البعض القيام بجهد تطوعي -يشكرون عليه- من خلال توزيع علب الماء البارد على الحضور، ولك أن تتصور منظر العلب الفارغة، وقد ألقيت هنا وهناك، دونما احترام لساكني هذه المقبرة، فضلاً عن عدم توافر مظلات تقي الحضور من كبار السن والمرضى، وكذلك المشاركون في الدفن من أشعة الشمس، مما يعرضهم لضربة شمس أو إغماءة، وقد شهدت بنفسي سقوط البعض في المقبرة أكثر من مرة.

الموت لحظات صعبة، وأيام سوداء تمر ببطء على أهل الفقيد، وأشدها هي لحظات الدفن في المقبرة، فهل نجعلها سلسة وبسيطة، والأهم من ذلك منظمة، أم بقاء الوضع الحالي سوف يستمر، هذا ما لا نعرفه، ولكن جوابه بالتأكيد موجود لدى أمانات المناطق وبلديات المحافظات.