إشكال علاقة الطالبة بالمعلمة ليس محصورا فقط بالتعليم المثالي أو التعليم الإيديولوجي. التعليم الحديث يعاني أيضا من إشكالات خصوصا فيما يعرف حاليا بالتعليم بصيغة التدريب أو التعليم الأداتي. من البداية مهم جدا التنبيه هنا إلى أن الحديث هنا هو عن التعليم العام أي التعليم الذي يأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب في حياة المتعلّم. في المقابل مراكز التدريب أو الدورات المخصصة لتنمية مهارات محددة معينة هي خارج هذا النقد باعتبار أنها علاقة تحقق الهدف المطلوب وهي كذلك علاقة واضحة من البداية. إشكالنا هنا مع التعليم العام الذي يسعى لتنمية شاملة لمهارات الطالب الفكرية والاجتماعية والسلوكية والنفسية، ثم يتم حصر علاقة المعلم مع الطالب في علاقة تدريب على مهارات معيّنة تطغى على العلاقة الإنسانية في التعليم وتحصر العلاقة في مجرد ممارسة أداتية.

علاقة التدريب علاقة محدودة في طبيعتها فالمعلمة تحضر فقط كمتقنة لهذه المهارة بعيدا عن كل تجاربها الأخرى والطالبة تحضر بوصفها متلقية لهذه المهارة تحديدا. المهارة هنا هي حد العلاقة التربوية. طبعا هذا النوع من التعليم تتم الدعوة له تحت شعارات الجودة والفعالية باعتبار أن يركّز على مهارات محددة يمكن قياسها وتقدير النجاح من عدمه. لكن السؤال المهم هنا هو عن معنى تحويل التجربة التربوية من تجربة شاملة تتعلق بكافة جوانب الحياة إلى تجربة محدودة ترتكز على إتقان مهارات معيّنة غالبا ما تخدم ثقافة الاستهلاك في المجتمع.

هذا النوع من التعليم غالبا مقود برؤى اقتصادية وإنتاجية تسعى لتحويل المدارس إلى مصانع لإنتاج بشر جاهزين للعمل في السوق خارج المدرسة. لو لاحظنا فهذا الهدف لا يلبي حتى الجانب الاقتصادي من حياة المتعلمين. هو لا يلبي فتح تجاربهم إلى عملية الإنتاج والتبادل الاقتصادي في الحياة بل تحصرهم هذه التجربة فقط في إدخال المتعلمين في خط معين من معادلة الاقتصاد في وقت معين ومن المحتمل جدا أن يخدم هذا الخط المنتجين لا العاملين. إذن بالإضافة إلى محدودية النفع الاقتصادي لهذا التعليم إلا أنه أيضا يعبّر عن محدودية واضحة في النظر إلى التجربة الحياتية وتحويلها فقط إلى مجموعة من المهارات الضيقة.

علاقة (الأنا-الآخر) بحسب بوبر تتطلب حضورا إنسانيا كاملا. هي علاقة لا تتحقق إلا في انفتاح على تنوع التجربة الإنسانية وطبيعتها المتجه باستمرار للجديد والمختلف. العلاقة الأداتية حين تسيطر على التعليم تجعل من المشاركين في العملية التعليمية يحضرون جزئيا. أي بوصفهم متقنين لمهارات محددة. كل جوانبهم الإنسانية والمعرفية تعتبر غير مهمة وتتم إزاحتها باستمرار للخارج. في هذه العلاقة لا وجود لحوار مفتوح. الحوار، إن تحقق، هو حوار تقني محدود المساحة والهدف. إذا كان المنخرطون في علاقة تعليم مفتوحة يتعرّفون على بعضهم البعض باستمرار من خلال انكشافهم واتساع تجربتهم إلى مساحات متجددة من العلاقات فإن العلاقة الأداتية لا تسمح بهذا المستوى من التعرّف. على العكس من ذلك تماما فهي تعتبر حجابا يمنع الأفراد من التعرّف على بعضهم البعض.

العلاقة الأداتية تنتمي لعلاقة (الشيء-الشيء) فهي علاقة تتجه من الطرف الأول باعتباره متقنا لمهارة معينة إلى الطرف الآخر باعتباره محتاجا لهذه المهارة. العلاقة مصممة لتحصر في هذا المستوى وأي خروج عنه يعتبر خروجا عن هدف التعليم و يتم نفيه واعتباره خارج الاهتمام. تحويل التعليم العام إلى تعليم بهذا النوع من العلاقة هو حرمان هائل لتجربة جميع الموجودين في الساحة التربوية. التجربة الحياتية للأطفال مفتوحة بطبيعتها ومتجددة ومفعمة بالخيال والأحلام والتغيير. هذه التجربة تحتاج تعليما يتسع لكل هذه الإمكانات والاحتمالات، تعليما يستطيع رؤية الطفل من كل جوابه الفنية والعاطفية والجمالية والفكرية والجسدية. هدف هذا التعليم هو توفير مساحة رحبة لكل هذه الإمكانات. التعليم الأداتي هو تعليم ضيق المساحة ولا يسمح لا للطالبة ولا للمعلمة بالحضور في العلاقة التربوية بكل تجاربهن وخبراتهن بل بوصفهن منخرطات في علاقة تبادل لمهارة محددة لا أكثر.

هذا التعليم يخدم الغرض فهو يبدو من الخارج متقدما وحديثا من خلال اعتماده على التقنيات الحديثة. لكن في حقيقة الأمر هذا التعليم لا يقدم أي تغيير جوهري في طبيعة التعليم المثالي أو الإيديولوجي فهو في الأخير يبقي الطلاب والمعلمين في علاقة دون العلاقة الإنسانية الكاملة التي تسمح لهم بتحقيق خبرة تربوية حقيقية. في التعليم الأداتي يبدو الحوار والحرية الفكرية والتفكير النقدي والتعليم المبني على خبرة الطالب والتعليم المتكامل عبارات خارج السياق. الشعار الجوهري هنا هو تدريب الطلاب على مهارات محددة وإعدادهم لسوق العمل.

في التعليم المثالي والإيديولوجي والأداتي تبقى علاقة الطالبة والمعلمة علاقة ما دون العلاقة الإنسانية الحوارية. التعليم المثالي يحوّل المعلم إلى قائد والمتعلم إلى تابع تحت شعار من علّمني حرفا كنت له عبدا. في المقابل يتحول الطالب في التعليم الإيديولوجي إلى مجرد منتج يتم تصميمه لتحقيق أهداف محددة لدى واضع سياسية التعليم. بمعنى أن المعلم والمتعلم منخرطون في آلة كبيرة لإنتاج أفراد بمواصفات محددة. التعليم الأداتي أيضا يحصر العلاقة بين المتعلمة والمعلمة إلى علاقة محدودة جدا مرتبطة بمهارة محددة. هذه العلاقة تحجب الاثنين عن التعرف على بعضهما وبالتالي تكوين علاقة إنسانية كاملة. كان معيارنا في نقد هذه النماذج تصور أن العلاقة العادلة هي العلاقة التي تحترم حرية الفرد وأن خيارات حياته هي جزء أصيل من هذه الحرية وأن التعليم يجب أن يحقق هذا الهدف. في المقالات القادمة مقترحات للخروج من مأزق هذه العلاقات.