لم يعد النجاح في الإدارة في العصر الحديث يترتب على نوعية المناصب، والأهمية الاجتماعية والسياسية لصاحب المنصب بقدر ما أصبحت فناً وثقافة وعلماً. بل إن علماء الإدارة في العصر الحديث يزيدون على كون الإدارة فنا وثقافة وعلما، ويؤكدون على أنها حضارة قائمة بذاتها، لها كل ما للحضارة من أدوات ونتائج. ويؤكد فيلسوف الإدارة الأمريكي الأشهر في العصر الحديث بيتر دريكر (Peter Drucker 1919-2005) في كتابه "فن الإدارة في القرن الحادي والعشرين"، على أن الإدارة الحديثة ليست مجرد علم واختصاص، بل هي حضارة لها قيمها، ومعتقداتها، ومعداتها، ولغتها الخاصة. وفي هذا الكتاب يؤكد بيتر دريكر، على أنه ليس المهم أن تكون لديك موارد وأموال، بقدر ما المهم، أن تعرف كيفية إدارة هذه الموارد، وهذه الأموال.

وعندما نادينا في مقال سابق بضرورة نظر علماء الاجتماع في أسلوب إدارة خالد الفيصل للفريق الذي عمل معه في عسير، أو الذي يعمل معه الآن في إمارة مكة المكرمة، كنا ننطلق من مبدأ أن الإدارة الحديثة هي إدارة الفريق، وليست إدارة الفرد الواحد. فكما أن العلوم الاجتماعية تؤكد على النجاح من خلال عمل الفريق، فكذلك الحال مع علم الإدارة الحديث، كما يقول دريكر في كتابه المذكور. وكما يؤكد أن "الفرد وحده – مهما كانت قدرته - لا يستطيع إدارة التغيير، فهذا من عمل المجموعة. ولكن الفرد وحده يمكنه فقط، أن يقود عملية التغيير".


بشر وليسوا ملائكة

أشرنا في مقالنا السابق، إلى الموظفين الذين عملوا، والذين ما زالوا يعملون تحت إدارة خالد الفيصل وقلنا إنه لا فاشل بينهم، ولكن بعضهم يحتاج إلى التدريب، وبعضهم إلى مزيد من التدريب.

والسؤال الذي كنت أتوقعه من مقال الأسبوع الماضي على هذه النقطة بالذات هو:

- هل تعتقد بأن وصفك العام لهؤلاء الموظفين يكاد يكون ملائكياً لهؤلاء، وكأنهم من غير البشر؟

ولو ورد هذا السؤال إلي، لكان جوابي:

إن هؤلاء الموظفين في مجملهم هم من موظفي الشرق الأوسط، ومن واقعه، ومن حضارته، سيما أن بيتر دريكر يردُّ فن الإدارة إلى الحضارة في كتابه آنف الذكر. وهؤلاء فيهم مما في موظفي العرب الآخرين من سلبيات وإيجابيات. وهم بالتالي ليسوا من الملائكة. ومهمة القائد الإداري في هذه الحالة هي: أولاً، أن يحدَّ من تكاثر وانتشار هذه السلبيات. وثانياً، أن يُحوّل السلبيات إلى إيجابيات. وثالثاً، أن يسدَّ كل الطرق، ويمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى مزيد من السلبيات. ورابعاً، أن يتعرّف على أسباب هذه السلبيات، ولماذا وقعت؟ وهو ما كان قائماً إلى حد كبير في إدارة إمارة منطقة عسير خلال 35 عاماً مضت، ويجري الآن اتباع الأسلوب نفسه في إدارة إمارة منطقة مكة المكرمة.


بين عسير ومكة المكرمة

عندما انتقل خالد الفيصل من إمارة عسير إلى إمارة مكة المكرمة، لاحظ بعض الاختلافات التي لا بُدَّ من إدخال بعض التعديلات الطفيفة على أسلوب إدارته السابقة. ومن هذه الاختلافات:

1- أن الإمارة في عسير، تتعامل مع مواطنين من التابعية السعودية في معظمهم. أي أنها تتعامل مع مواطنين محليين. وهي بالتالي على دراية تامة بهم، وبمتطلباتهم، وأمزجتهم، وتقاليدهم، وعاداتهم.. إلخ. في حين أن الإمارة في منطقة مكة المكرمة، تتعامل مع مواطنين محليين وآخرين جاؤوا من كافة أنحاء العالم سواء المقيمون منهم، أو الحجاج، أو المعتمرون، أو الزائرون للأماكن المقدسة، على مدار السنة. وهؤلاء جاؤوا من أمم وشعوب مختلفة، لها عاداتها، وتقاليدها، وأكلها، وشربها.. إلخ المختلفة. وبالتالي كانت إدارة إمارة منطقة مكة المكرمة، أمام كيفية إدارة العالم بأكمله، وليس جزءاً من المملكة العربية السعودية، كما كان الحال في عسير. وكان على القائد الإداري في هذه الحال، أن يُدخل بعض التعديلات على إدارته السابقة.

2- في منطقة عسير، يعيش معظم المواطنين على الفطرة. وهم بسطاء. لم يختلطوا بشعوب أخرى نتيجة الموقع الجغرافي والتجاري والديني، كما هو الحال في جدة، ومكة المكرمة. ولم يطَّلعوا على ثقافات الآخرين، بسبب عدم الاختلاط ذاك. وهم في غالبيتهم من المزارعين التقليديين، ومن أبناء الريف. في حين أن سكان منطقة مكة المكرمة، كانوا من رجال الأعمال المختلفة. وكانت التجارة عملهم الرئيسي، إضافة إلى الخدمات المختلفة، التي يقدمونها للحجاج، والمعتمرين، والزائرين للأماكن المقدسة. وهذه الأعمال لعبت دوراً كبيراً في تشكيل البُنية الاجتماعية والثقافية للسكان في منطقة مكة المكرمة.

3- كثير من القادة الإداريين سواء في مجال الخدمات العامة، أو في مجال الشركات التجارية، أو في المجال السياسي، يدرسون مسبقاً بعناية الجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمحيط الذي سيقودون إدارته. ولا بُدَّ أن الأمير خالد الفيصل كان يعي تماماً - وهو من ولد وعاش فترة شبابه في منطقة مكة المكرمة – الفروق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين محيط وواقع منطقة عسير وبين ما هو قائم في منطقة مكة المكرمة.

4- وبما أن المناخ والموقع الجغرافي يلعبان دوراً مهماً في تشكيل العقل والحضارة في التاريخ كما يقول هيجل (العقل في التاريخ)، وبما أن الاختلاف في هذين العاملين واضح وبارز في منطقتي عسير ومكة المكرمة، وله تأثير كبير على المحيط. فقد تم أخذ ذلك بعين الاعتبار.

5- إن حجم الملفات والخطط والقضايا في إمارة مكة المكرمة، أكبر بكثير منها في إمارة عسير، رغم أن منطقة عسير كانت في السبعينات والثمانينات مليئة بمثل ذلك، وذلك من خلال ما قرأناه في كتاب الأمير خالد (مسافة التنمية وشاهد عيان، 1420/2000م) إلا أن نوعية السلبيات التي واجهت الأمير في منطقة مكة المكرمة، تختلف عما كانت عليه في إمارة منطقة عسير.





تيسير العسير بالإبداع

يعتبر بيتر دريكر في كتابه آنف الذكر، أن أكبر التحديات التي تواجه الإدارة الحديثة، هي تعليم، وتدريب العاملين باستمرار. والتعليم والتدريب هو الذي يقود إلى الابتكار والإبداع، وليس إلى التكرار والاتباع. وبذا، تصبح إنتاجية العاملين غير مرتبطة بالكم بقدر ما هي مرتبطة بالكيف وبالجودة في الإنتاج. وتحويل بعض موظفي الدولة إلى مبدعين، بدل أن يكونوا مجرد موظفين تقليديين، ليست بالمهمة اليسيرة، ولا بالمهمة السريعة النتائج. ولكن بدأ خالد الفيصل هذه المهمة في عسير، من خلال إبداعه كفنان، ومن خلال معرفته كمثقف. وهو ما قرأناه في كتابه (مسافة تنمية وشاهد عيان).

(ولنا عودة).