مع أن الاجتهاد توقف منذ ما يربو على الأربعمائة عام، وما نراه في آننا الحاضر من جدل في أروقة المفتين لا يتجاوز مجرد فرز لآراء العلماء السابقين والاختيار من بينها، مع ذلك قوبل بعاصفة من الشجب والهجوم والمصادمة والمصادرة والرفض بل والتفسيق، بتهمة الخروج عن الإجماع الذي على فرض وجوده - رغم استحالته - فضلا عن حجيته، اعتبر أعلى وأقدس من نصوص القرآن التي ربما تخالفه، خاصة فيما يخص التسامح واليسر وحرية التفكير ونبذ التعنت والتشدد والغلو.

وببساطة هذا الحراك الفقهي لا يعدم فائدة جرأة طرح رؤى جديدة خالفت السائد أو لنقل أنها طرحت عنها السائد وعبرت عن ثقتها بتفكيرها فاختارت رؤىً أقل تشددا وأكثر سماحة وأنسب للعصر، بعد أن كان الاجتهاد يسيج في دوائر مرعبة ومخيفة ومقولبة إزاء أمور هي من الظنيات أو الجزئيات، إلا أنه ولأننا نملك مقاليد ذهنية التشدد والغلواء، فقد تم المطالبة بالحجر على أصحاب تلك الفتاوى ورمي أصحابها بأوصاف لا تليق بمؤمن كـ"دعاة على أبواب جهنم" وفسّاق وجهلة، والمفتي الماجن، ومتبع الهوى والمصالح، وغيرها من ألفاظ الغيبة المعيبة التي ملأت مساحات البث الفضائي والإعلامي بجنونها!

إن سيرورة الزمن تحيل إشكالية التطور المتصادمة مع إرجاف التشدد والغلو إلى آية التسامح والسماحة "ماجعل عليكم في الدين من حرج، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقوله صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا"، وتبين تضاربها مع أقوال يبجلها ويتحيز لها بعض الفقهاء كمقدس يعتلي النص الإلهي، كقول إبراهيم بن أدهم "من تتبع الرخص فقد تزندق"، وأقوال أخرى مشابهة، وتوضح سر هذا التبجيل المعارض لمنهج الرسول عليه الصلاة والسلام الذي "ماخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما"؟! ويزداد الأمر غرابة إذا ما سلمنا أن مقياس الرخصة هو وجود الدليل، فكيف يتزندق من كان مؤمناً ولديه دليل!! مما يضع علامة سؤال أمام سبب البعد عن غربلة التراث وفرز الصالح فيه من طالحه بوضوح وتجل للحق.

وإذا كنا على المستوى التنظيري نردد الاختلاف رحمة، فهذا المفهوم ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم بشر من نوع خاص يسمون "أهل الحل والعقد"، يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل، وأنهم هم وحدهم الناقلون عن الله، وأن النضال ضد حاكمية أولئك الفقهاء، يوهم بالكفر والإلحاد والزندقة بوصفه تجديفا وهرطقة ضد حكم الله، فهاهم يصفون تيسير الإسلام بـ"رخص الفقهاء فيما كان خلاف الراجح".

وكلما بدأنا نقارب حل ثنائية النقل/ العقل كلما اعتليت المنابر تحذيراً وتنديداً وتقسيماً وتفريعاً لأحوال الناس وأصنافهم، شكاً في مقاصد المختلف وأهدافه، وبثاً للكراهية والفرقة، ودعماً للتحزب والفتنة، حتى بات الواحد منا يصنف كمنتمٍ لأحد حزبين؛ حزب "الرويبضة" الذي يفكر بصوت عالٍ وخص به الصحفي والإعلامي والمفكر والمثقف، وحزب "المتشدد" الذي لا يرى الناس إلا ما يرى، والرويبضة يقصد به حالياً كل من قارب تخوم الفقه والشريعة "ملك الفقيه الخاص" وسمح لنفسه ولو مجرد إعلان ميله لكفة الفتاوى الجديدة الأكثر تسامحاً، وبث منطقية وحيثيات اختياره كفرد مؤمن بتكليفه العقلي، ومحبٍ لليسر ومؤمن برحمة ربه، تنزيهاً له بجمال الظن وابتسام الأمل، ولسان حاله يتمثل بيت الشاعر المتفائل:

وإني لأرجو اللهَ حتَّى كأنَّما

أَرَى بجَمِيلِ الظَنِّ ما الله صَانِعُ

ولأن اللغة في النصوص ليست بيّنة بذاتها، إنما يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص، ومن ثم في إنتاج دلالته، فإن تعريف الرويبضة في الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم في قولهم وما الرويبضة يارسول الله؟ قال: هو التافه يتكلم في أمور العامة، هو تعبير لا يخرج من مشكاة النبوة، إضافة أن كل متن لذات الحديث تعريف للرويبضة مختلفٌ ومناقضٌ لغيره، مما يدل على ضعف الحديث، فمرة يأتي معنى الرويبضة من لا يؤبه به، ومرة الوضيع من الناس، وأخرى بالفويسق وغيرها، فاضطراب المتن يحول دون تصحيحه خاصة ما انفرد به من التعريف "تعريف الرويبضة" عدا علته في غرابة السند وضعفه ونكارته، وإلى جانب أن كلمة "تافه" بحد ذاتها لم تكن من الألفاظ المستخدمة قديماً.

يفند السبب الرئيس لتخلف التأويل لدينا المفكرُ نصر حامد أبو زيد رحمه الله في كتابه "تجديد الخطاب الديني" بقوله "الدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالاتها، وقراءة الحاضر في الماضي مع إهدار الدلالة التاريخية للنص المقروء تمثل تعدياً على الحقيقة، وتضحية بالإبستمولوجي لحساب الأيديولوجي"، وهذا التقديس لأقوال فئة من العلماء والبقاء تحت رحمتها رغم اختلاف الواقع والعصر، يعبر عن رؤى الانغلاق ، ومكمن سر التعصب والفجور في الخصومة التي تستبيح كرامة الإنسان وتصادر حقه في الحرية والاختلاف، وهو ما نعايشه اليوم على المنابر وخلف شاشات التلفاز وأمام المواقع الإلكترونية المرجفة.

وإنه لمن نعم الله تعالى أنه لم يصبّ العقول البشرية في قوالب واحدة منمطة مستنسخة، وإنما جعل العقل سبيل طلاقة وانطلاق وحرية واجتهاد، فالحكمة ليست حكراً على شخص أو على أمة أو على مرحلة تاريخية دون سواها، لكنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وإن وُصِفَ ذلك الحكيم برويبضة أو نعت بأنه جند من جنود الشيطان.