إن قصة التضحية التي تناولتها الكتب السماوية المقدسة، المتعلقة بقصة النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما أفضل الصلاة والتسليم، تحمل دلالات دينية وإنسانية، لم يتم حتى الآن فهمها حق الفهم وسبر أغوارها كما يجب والغوص في بحورها، لاستخراج لآليها وكنوزها، لتصبح معيارا أخلاقيا، تقاس عليه تصرفات البشر مع بعضهم البعض، ومحكا لمصداقية تعاطيهم مع واقعهم القيمي الإنساني والأخلاقي، الذي طالما رددوه وتباكوا عليه، نادرا بحق، وغالبا دون حق.

القصة تذكر بأن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه بأنه يؤمر بأن يضحي بابنه إسماعيل تقربا لله تعالى، وصدق إبراهيم الرؤيا، وأخبر ابنه إسماعيل برؤياه التي تكررت عليه في المنام، فكان جواب الابن البار لأبيه أن يفعل ما أُمر به، وسيجده من الصابرين. إبراهيم بدأ بتنفيذ ما أُمر به في المنام، ولكن السكين لم تطاوعه في ذلك؛ حتى أنزل الله عليه كبشا سمينا، وأمره بأن يضحي به "الحيوان" تقربا لله تعالى عوضا عن تضحيته بابنه "الإنسان"، وذلك لكون الله قد خلق الإنسان ليعبده ويعمر الأرض، ويبين قدرته وعظمته تعالى لعباده، أما الحيوان فلا طاقة له على إعمار الأرض كالإنسان، ولذلك فقد تم تسخيره للإنسان، كباقي المخلوقات، غير الإنسانية، وجعله "الحيوان"، وسيلة لإعمار الأرض لا غاية لها، كما الإنسان. قال تعالى: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".

إذاً، نفهم من القصة المقدسة، أن الإنسان هو مركز الكون وجوهره، وأن ما في السموات والأرضين كلها مسخرة له، لينجز حكمة الخالق العظيم في خلقه، والمتمحورة حول عبادته وإعمار الأرض ونشر الأمن والسلام والخيرات فيها. ولذلك أصبحت حياة الإنسان معصومة إلا بحقها، والحفاظ عليها ورعايتها من أنبل ما يفعل الإنسان، وإزهاقها والعبث بها، من أقبح ما يفعل الإنسان. قال تعالى "... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". إذاً فقمة وغاية أي منظومة أخلاقية إنسانية، يجب بأن تنطلق من الحفاظ على حياة البشر وصيانتها ورعايتها، ودونها لا يمكن إخلاص العبادة لله تعالى وتقديره حق قدره، وكذلك لا يمكن تنفيذ إرادة المولى جل جلاله، على الأرض، في إعمار الأرض وتبيان فضله وكرمه على عباده.

إن من يطالبون الناس أو يحرضونهم بالتضحية بحياتهم تقربا لله بها أو منه كما يتوهمون؛ هم أبعد ما يكونون عن إدراك حكمة الله في خلق الإنسان؛ وأقرب خلقه للعدوان عليه وعلى خلقه. بل هم في الحقيقة، يطالبون الناس أو يحرضونهم على التضحية بحياتهم وأنفسهم كقرابين رخيصة لغاياتهم الدنيوية وغرائزهم المسعورة، بحب سفك الدماء والولوغ فيها. وكذلك من يعتدون على حياة الإنسان، بغير حق، ويدفعونهم للحروب، قد يعلمون دواخل أنفسهم أنهم كاذبون، وإن لم يعلموا ذلك، فيجب على الإنسان، المرشح ليكون الضحية بأن يعلم يقينا أنهم لكاذبون. وذلك لكون الدين أتى للحفاظ على حياتهم وأن الوطن هو وسيلة لعيشهم ورعايتهم، لا لمماتهم وتدميرهم، وأن قمة الأخلاق وغايتها هي الحفاظ على حياتهم، وما عداها فيأتي بعدها في التراتبية. أي لا يمكن دينيا ولا عقلا ولا منطقيا، بأن يضحى بالأثمن من أجل ما هو أرخص، أو يضحى بما هو باق من أجل ما هو بزائل، أو يضحى بالجوهر من أجل القشر، ولا يمكن كذلك التضحية بالغاية من أجل الوسيلة، مهما كانت هذه الوسيلة مغرية، فلا وسيلة تعلو على غايتها، ولو كره المسفسطون.

ولذلك فالحروب تمثل وصمة عار في جبين الإنسانية؛ لأنها الجريمة النكراء التي يرتكبها الإنسان بحق نفسه وجنسه، وحتى ما كسبت يداه من إعمار واستثمار. الحرب هي التي تعري الإنسان من كل ما يدعيه من أخلاق وقيم، حيث غايتها تدمير هرم وقمة الأخلاق والقيم الإنسانية، وهي حياة الإنسان. وهي كذلك التي تدمر كل ما عمر الإنسان هو ومن سبقوه من بني البشر قبله. موضوع الحرب والأخلاق، موضوع شائك ومعقد، ويحتاج لكتب لتناوله، حيث تتداخل وتتشابك فيه دوائر منظومات الدولة والدين والمجتمع والأخلاق، بمعناها القيمي الإنساني.

كانت الحرب قديما تجري في معظمها خارج المدن والتجمعات السكانية، ولا تطول أكثر من أيام أو أسابيع بأقصى حدودها؛ وتكاد تنحصر بكونها شأن دولة ومحاربين لا دخل مباشر للمجتمع بها، حيث كانت تسمى بالمصطلح العسكري، بالحرب المحدودة، ولذلك فتأثيرها على الداخل لم يكن ذا قيمة تذكر. وبعد اندلاع الثورة الفرنسية في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، دخلنا إلى ما تم الاصطلاح عليه، بالحرب الشاملة. فالحروب الشاملة تستهدف تدمير حياة الإنسان ووسائل عيشه الكريم، في كل بقعة من بقاع الحرب. فالحرب الشاملة اليوم لا جبهة محددة ومعينة لها، فكل شبر من المحيط المستهدف، يصبح جبهة مشروعة ومشرعة لها. كما أن الحرب الشاملة اليوم لا رجال محددين مستهدفين فيها، فكل من يتحرك ويتنفس في المحيط المستهدف هو هدف ومستهدف فيها، حتى ولو كان طفلا يحبو أو عجوزا يمشي ويكبو.

أعلى قيمة في الوجود هي حياة الإنسان، وكل ما فيها يسخر لها ومن أجلها ولأجلها والحفاظ عليها وصيانتها، في الحروب، تنعكس قيمة الإنسان وتصبح حياته هي وقودها وعامل استمرارها، أي تنعكس قيمة حياة الإنسان من قمة الاهتمامات، لتهوي إلى ذيلها. والنتيجة الطبيعية لإنزال قيمة الإنسان وحياته من قمة الاهتمامات لأرذلها، هي توقع ما لا يمكن توقعه من ناحية تهاوي ما يمكن تهاويه وسقوطه من ما يليها من قيم أخلاقية بشكل عام. إذاً فالأخلاق هي أول ضحايا الحروب؛ وهذا دحض لحجة كل من يشن حربا أو يسعرها تحت ذريعة حماية البشر أو إنقاذ الأخلاق أو التباكي عليها.

عند نشوب الحروب، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وهنا تعلو هي فوق كل الأصوات، فوق صوت الدين وفوق صوت الأخلاق وفوق صوت القيم وما عداها من أصوات. ويصبح الإنسان الذي كرمه الله بتسخير الكون كل الكون من أجله ومن أجل الحفاظ على حياته ورعايتها، وسيلة رخيصة من وسائل المعركة، تزهق مثل ما تزهق أرخص وسيلة كونية سخرها الخالق البارع له ومن أجله، ليكون خليقته في الأرض، ويعلم الله ما لا نعلم.

وهنا لا مجال لرفض التضحية بالإنسان من أجل أي شيء، إلا بأخذ العبرة، من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وحكمة الله تعالى في إرسال الكبش إليه، ليضحي به، لوجه الله تعالى، عوضا عن تضحيته بابنه البار سيدنا إسماعيل عليه السلام. بما أن الله تعالى تنازل عن التقرب إليه بدماء البشر، واستبدلها بدماء الحيوان، فمن باب أولى ألا نقبل بالتضحية بدم الإنسان، من أجل من هو أقل مرتبة وأدنى شأنا من الله تعالى مهما كان هذا الكائن. وكل عيد أضحى وأنتم بخير وسلام.