لم يعد لنا في هذا الزمان سوى اتخاذ موقع المشاهدة ليتناسب وإيقاع هذا العصر، وليواكب آخر التقاليع العصرية المستحدثة. فإذا كان الفرد منا لم يعد يحتمل بعض الوقت لكي يقف على أضحيته بين يدي الله، يكبر عليها ثم ينحرها، بل وتقف عليها الأسرة كلها من طفلها حتى شيخها. فأهلونا قد علمونا أن الحسنات بعدد شعراتها إذا ما وقف الفرد على نحرها، ثم تتجمع الأسرة في فرحة غامرة حول مائدة الإفطار من سقطها وهو ما نطلق عليه طبق( الشوي)، وذلك بعدما نتصدق بالثلث ونهدي الثلث ونحتفظ بالثلث. ثم إن وقوفنا عليها حين نحرها يغرس في نفوسنا كأطفال ما لن نتنازل عنه أبدا فيما بعد، وهو النحر يوم العيد مع أول لبس جديد.
إلا أننا نشاهد في هذه الأيام إعلانات تملأ الفضاء الإعلاني عما يسمى بـ"صك الأضحية" وهو أن يذهب الفرد إلى شباك التذاكر ليشتري صك الأضحية وكأنه يشتري تذكرة للسينما أو المسرح، ثم يدفع ما يدر به جيبه حسب الرقم المعلن عنه وينصرف، وكأنه أماط عن كاهله حملا كبيرا أراد أن يتجرد منه ومن عبئه، فلم يعد الأمر بالنسبة له طقسا ونسكا، وفرحة ونحرا حسب مواقيت فرضها الله بميعاد، أيام معدودة يجب أن نقف عليها ونفعلها نحن دون غيرنا. وفي الأضحية كثير من الأثر الذي يحيط بنا وبمجتمعاتنا وما يتركه فينا وفي الأجيال المتعاقبة، فهل تبقى هذه الآثار في ظل تقاليع العصر والاستهتار بالنسك في صور شتى كصك الأضحية؟ ومن هذه الآثار:
أولاً الوازع الديني:
أ- ليس هناك أثرى وأوسع من إحساس الفرد منا بالوقوف لبضع دقائق حينما يقف بين يدي الله عز وجل يلبيه ويمتثل لأوامره في لحظة من الخشوع والتكبير والتهليل بعد أداء صلاة العيد، كأول فعل له بعد هذه الصلاة الجامعة المحببة البهية بكل التكبيرات والدعوات والحمد والتوحيد وتاجها هو النحر، وفي قرارة نفسة مشابهة فعل الحجيج في قوله تعالى في سورة الحـج: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين). وفي هذه اللحظات تتجسد التقوى التي قد لا يمن الله بها على بعض عباده لأنها منزلة أرقى، وبذلك تكون أمامه فرصة عظيمة لكي يقف في هذه اللحظة السريعة الخاطفة بحساب الزمن السرمدي لينال منزلة المتقين. هذا الإحساس وهذا الموقف وهذه اللحظة المبهجة الوضاءة بنور التقوى أين ستذهب إذا ما ذهبنا إلى شباك التذاكر؟
ب- الصدقة بالثلث وفيها شعور شديد الدقة في هذا اليوم، حينما يرى الفرد منا المحتاجين والمساكين وهو يمد لهم ما تحمله يداه من خير. إحساس مغاير بطبيعة الحال، الحس الراقي بالمحتاج يراه رؤيا العين فيتمازج ذلك الحس بالآخر وبحالة عوزه، بينما الآخر يشعر بتعاطف الأول والشعور به إنه "تماهٍ" حر ونادر بين طبقتين وبين حالتين تجمعهما فرحة العيد وبهجته. فكيف لنا أن نذهب إلى شباك التذاكر لنشتري تذكرة الصك وننصرف، ويظل الآخر هناك بعيداً فإن وصله شيء - وبطبيعة الحال ليس يوم العيد لكثرة الصكوك – فسيكون شعوراً مختلفاً لا طعم له ولا رائحة.
الوازع الاجتماعي:
أ- إنه أثر من نوع فريد ومبهج يبدأ بالأسرة وهي جميعها حول الأضحية، في ثياب جديدة وبحناجر داعية مكبرة وبهجة حميمية تفوز بصدقات بعدد الشعرات وبعدد قطرات الدماء. ثم تناول ما تيسر منها في طعام الإفطار، وهي عادة من عاداتنا التي ننفرد بها ويجب أن لا نفرط فيها.
ب - الإهداء (تهادوا تحابوا)، فنهدي منها الثلث للأحباء والأقارب، وذلك يترك أثرا اجتماعيا مبنيا على التواصل الاجتماعي والرحمة المودة، وهي حكمة فطرنا الله عليها وخصوصية عربية تذهب أدراج الرياح بشراء الصك والانعزال عن الآخر.
ثانيا الوازع الأخلاقي:
أ- وهو ما يتركه هذا النسك في نفوسنا وفي تكوين أبنائنا من بذل ومن عطاء ومن ارتباط بالدين، فتتأصل فينا وفي الأجيال القادمة تلك اللحظة المرتبطة بالبهجة؛ وبالتالي يتأصل ذلك الشعور بالفقراء والمساكين وابن السبيل وكل من هو محتاج؛ لأنه يحيا بيننا نتعامل معه في حميمية دائمة، وهو ما لا يتوفر فينا حينما نذهب إلى شباك التذاكر لنشتري صك الأضحية!! فيضيع الإحساس ويذهب الحس الوجداني إلى المفازة، لأننا أصبحنا أكثر تطورا وحضارة ومنفتحين على العالم! فلا داعي لمنظر الماء ورؤية النحر أو تلطيخ المسكن الفاخر ببقايا اللحم المتناثر هنا وهناك! وربما نستحسنه"الصك" لنتسابق إلى الملاهي والاحتفالات أو النوم حتى ما بعد الظهيرة لنفيق على عيد قد ذهب. أليست هذه الدوافع المحمومة للتسابق لشراء هذه الصكوك؟! وربما يقول البعض لا نعلم طرق الفقراء فهنالك مختصون للذهاب إليهم! إنما الحقيقة غير ذلك، فكل غنيين ثالثهما فقير، ولكن لا نعلم ولا نبحث ولا ندقق النظر.
ب- التعفف والترفع حيث إن المضحي لا يبيع أو يشتري لا من لحومها ولا من فرائها اقتداء بالسنة النبوية وتعاليم الدين الحنيف بأن لا نبيع فرائها أو أي شيء منها، وبهذا يتأصل فينا مدى أهمية المحافظة على أركان السنن وعدم التفريط فيها.
الوازع الاقتصادي:
إن من السنة أن يمكث في البيت ثلث الأضحية، ليأكل منه أهل البيت، وبالتالي تعود الأضحية بالنفع على عائل الأسرة وهو ما لا يحققه صك الأضحية، إذ ندفع مالاً ثم نأخذ صكاً وننصرف وتنصرف معه كل ما لدينا من خصوصية.
الوازع التربوي:
فهو ما يتركه سلوك الآباء في الأبناء من (تماهً) فالطفل بالتماهي يتبنى جميع السمات والاتجاهات والقيم التي يعرضها الأنموذج القدوة فيما طرحناه من جميع "الوزاع" سالفة الذكر،
إن هذا التقليد "صك الأضحية" تطور وافد قد لا ندرك كنهه، إذ لم يبق لنا إلا ديننا ونسكنا في هذا العالم الزاخر بالتداخلات.