منذ أن كنت عضواً في فريق الكشافة بالمرحلة الثانوية في ا?عوام الثلاثة (1405، 1406، 1407 للهجرة) وأنا أتذكر في كل موسمٍ للحج تلك الأيام العظيمة المباركة لفريضة الحج. أتذكر مشاركتي ضمن فريق شباب الكشافة في موسمين متتاليين لخدمة حجاج الرحمن.

صحيح أنني نسيت بعض التفاصيل، لكنني ما زلت أتذكر بعض الأماكن، أتذكر الوجوه، أتذكر تصبب العرق وابتلال بدلاتنا من شدة الحرارة نهاراً، أتذكر الدعوات الطيبة التي كانت تنطلق من فم كل حاج كنا نقدم له المساعدة بحب -جزاهم الله خيراً-، وتذمر كل حاجٍ لم يرضه مستوى خدمتنا له! وتقريعهم لنا بعنف أحياناُ -سامحهم الله- على الرغم من حرصنا على تقديم أقصى ما نستطيعه، وما هو مسموح لنا في حدود مناطق توزيعنا وحركتنا، أتذكر أصدقاء الكشافة الشباب من جميع أنحاء المملكة العربية السعودية. أتذكر فرق جوالة الجامعات السعودية، وما كانوا يقدمونه جميعاً كفريق من أعمال تطوعية لمساعدة حجاج بيت الله الحرام برحابة صدر.

أتذكر ليالي السهر وتبادلنا المناوبات في مخيمات الحجاج حرصاً على تقديم أفضل خدمة لكل حاج دون تمييز أو تردد أو تذمر. أتذكر دعوات أمهاتنا ودموعهن المودعة لنا ونحن نغادر إلى مكة المكرمة والأماكن المقدسة، في ذلك الزمن لم تكن هناك هواتف نقالة (الجوالات) لتُمكنهن من الاطمئنان على سلامتنا في أي وقت مثل اليوم، بل كن يتابعن نقل التلفزيون السعودي لمناسك الحج من المشاعر بحرص وشغف كبيرين، أملاً في مشاهدتنا نظهر على الشاشة ولو لثوان سريعة لتطمئن قلوبهن علينا، أو ينتظرن اتصالاتنا لمن كان في منزله هاتف أرضي. لقد كانت أياماً رائعة ليس لها مثيل، حملت بين طيات لحظاتها ولياليها ونهاراتها روحانية ومتعة ? أستطيع وصفها مهما كتبت عنها من ا?حرف والكلمات.

وما زلت حتى اليوم أحتفظ بنموذج الاستمارة الأصلية ?حد مواسم الحج التي كنا نملؤها بالبيانات الخاصة التي تخولنا الذهاب كمتطوعين من الكشافة للمساعدة في خدمة الحجيج. لقد كنا سعداء ونحن نقوم بذلك العمل الروحاني الجميل كالأسرة الواحدة. اليوم بالنسبة لي انتهت تلك الأيام بنهاية دراستي المرحلة الثانوية وكم أحن إلى العودة لممارسة ذلك العمل، لكن ا?ثر الذي تركته في نفسي ليس له انتهاء قطعاً. وأدعو كل الشباب إلى الالتحاق بفريق الكشافة في مدرسته وإلى المبادرة بطلب المشاركة في مواسم الحج، ليستمتع بمذاق تلك اللحظات الرائعة. وحين نصل إلى مكة كان يتم تجميعنا في معسكر خاص بالكشافة لتدريبنا على مهارات الإسعافات الأولية وكيفية التصرف في الأزمات، وتعريفنا بالأماكن والاتجاهات والمسافات وتوزيع نشرات التوعية على الحجاج وغيرها من المهارات الكثيرة. ثم يتم توزيعنا كمجموعات وفِرق على كلٍ من (مكة المكرمة ومنى وعرفات ومزدلفة وبقية الأماكن التي تتطلب وجودنا) لنقدم فيما بعد واجب المساعدة لحجاج بيت الله الحرام. اليوم وبعد (28 عاماً) ما زلت أتابع وبحرص نقل حركة الحجاج المهيبة عبر القنوات الفضائية، لكن الأماكن قد تغير وجهها كثيراً. وباتت بفضل من الله ثم بفضل الجهود الجبارة التي بذلتها وتبذلها حكومة المملكة أكثر تطوراً وتنظيماً. وهذه شهادة من عاصر وليست شهادة من سمع، وأقولها اليوم للتاريخ إن الذي حدث من تطوير لتلك الأماكن يُعد فخراً حقيقيا، فالتوسعات الكبيرة للحرم المكي والمشاريع الهائلة في بقية المشاعر المقدسة ليس لها مثيل، ومن شاهد أماكن رمي الجمرات في السابق لن يصدق أنها كانت تستوعب أكثر من مليون ونصف المليون حاج.

الكشافة أو أصحاب المناديل الخضراء كما كان يُطلق عليهم بعض حجاج الدول العربية كالمغرب واليمن ومصر والجزائر، يُعدون من أهم الأطراف التي تسهم في إنجاح مواسم الحج تنظيمياً وعملياً، وتدعم الدولة جهودهم وأنشطتهم النبيلة، وتتابع احتياجاتهم باهتمام بالغ لإدراكها بما يحملونه من قوة وتأثير عملي، ولتستطيع فيما بعد استثمارهم في مثل هكذا مناسبات. فأفراد الكشافة لديهم من الصفات الأخلاقية والإنسانية مالا قد يتخيله البعض، ويحملون على عاتقهم تقديم الصورة المشرقة والمُشرفة المُعبرة عن الشباب السعودي كافة. إذ يتحلى أفراد الكشافة بالمسؤولية والتجرد من الذات والأنانية، ويتمتعون بالصفات الإنسانية المُثلى التي ترفع من مكانة الإنسان إلى أعلى المراتب. فماذا تتوقعون ممن شعارهم "الله ثم المليك والوطن".

ومهما كتبت عن شباب الكشافة فلن أفيهم حقهم، ولن أستطيع تصوير حجم تأثير أعمالهم العظيمة. فهم بحق الرقم الصعب الذي لا ينتظر شكراً من أحد ولا يعرف قوته ومكانته الكثير من الناس. فلنحي جميعاً بإجلال كل أفراد شباب الكشافة، والقائمين على تدريبهم ومتابعتهم وأنشطتهم. حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وكل عام وأنتم بخير.