أخيراً وقّع وزير الداخلية الفرنسي (مانويل فالس) القانون الجديد الذي يسهل حصول المهاجرين على الجنسية الفرنسية، كجزء من الوعود التي قطعها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على نفسه بتمكين المهاجرين من الإدلاء بأصواتهم بعدما تناقص عدد المهاجرين في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بسبب تشدد حكومته في هذه الناحية.
وعلى الرغم من أن الرئيس هولاند قد أعلن أنه لن يسمح بوجود مهاجرين بصفة غير نظامية على الأراضي الفرنسية، إلا أن صدور القانون الجديد يصب في اتجاه جعل معظم المهاجرين بصفة شرعية مواطنين فرنسيين بمدة لا تتجاوز خمس سنوات، وفور صدور هذا القانون الجديد جال في ذهني أمران:
الأول أن الرئيس ساركوزي الذي تشدد في مسألة حصول المهاجرين على الجنسية الفرنسية كأنه نسي-أو تناسى- أنه قد ولد لأبوين مهاجرين، أب هنغاري كاثوليكي، وأم يونانية يهودية ذات أصول فرنسية، أما الأمر الثاني فهو أن وزير الداخلية الفرنسي-الذي وقع القانون- فهو ذاته مهاجر إسباني، وقد حصل على الجنسية الفرنسية في العشرين من عمره.
وقد خفّض القانون الجديد سنوات الإقامة في فرنسا إلى خمس سنوات فقط بعد أن كانت عشراً، كما تم التخلي عن شرط إتقان اللغة الفرنسية لمن تفوق أعمارهم الخامسة والستين، وتم إسقاط اختبار الثقافة العامة مع الإبقاء على ضرورة تمسك المتقدم للتجنيس بقيم الجمهورية ولا سيما العلمانية، كما أن القانون يسهل حصول الشبان الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين على الجنسية شريطة أن يكونوا قد قضوا 10 سنوات في البلاد ودرسوا في المدارس الفرنسية نصف هذه المدة على الأقل، كما يتيح القانون الجديد الفرصة أمام أصحاب المؤهلات العالية والأطباء الحائزين على شهادات أجنبية الحصول على الجنسية الفرنسية، ويشار إلى أن كل هذه التسهيلات هي جزء من وعود الحكومة الاشتراكية الجديدة التي يقودها الرئيس هولاند، حيث أعلن وزير الداخلية الفرنسي رغبة الحكومة في جعل الجنسية محركاً للاندماج لا سباق عراقيل يخضع لدوافع تمييزية.
يمكن القول إن المشروع الفرنسي الكبير ما زال في قادة السياسة وعلماء الاجتماع ومراكز البحوث، حيث سبق أن أعلنت الدولة الفرنسية قبل عدة سنوات عن نيتها دراسة المجتمع الفرنسي وتحديد نقاط الضعف والقوة فيه، وماذا سيكون عليه هذا المجتمع في المستقبل، ولم تعلن النتائج حتى الآن، أو إنها غير قابلة للإعلان أصلاً.
استطاعت فرنسا بقانون الجنسية الجديد أن تصطاد عصفورين بحجر واحد، حيث يمكن إدماج المهاجرين بالمجتمع الفرنسي بسرعة، وبالتالي ضمان عدم تكرار شغب الضواحي الذي حدث قبل عدة أعوام، وخاصة أن المهاجرين أثبتوا في الانتخابات الأخيرة أنهم باتوا قوة سياسية لا يستهان بها في الداخل الفرنسي، حيث أعلنت أغلب جمعيات المهاجرين الرغبة بفوز هولاند رئيساً لفرنسا وهذا ما حصل.
كما أن فرنسا من خلال هذا القانون سوف تزيد من عدد سكانها، وتزيد من انفتاحهم على الثقافات الأخرى، كما أنها تستطيع أن تبني جسراً ثقافياً إيجابياً مع المجتمعات التي كانت تستعمرها سابقاً، وهي بذلك كأنها تهاجر إلى داخل حدودها الجغرافية والثقافية بقناعة من ساستها، وخاصة أن الدراسات المجتمعية الغربية هي دراسات تطبيقية تخضع للتجربة الدقيقة قبل تعميمها.
وبات واضحاً أن فرنسا تعيش أزمة ثقافية تحرك أذهان ساستها منذ انحسار نفوذها في مستعمراتها وراء البحار، على الرغم من وجود دول الكومنولث الفرانكوفونية بزعامتها، إلا أن ضعف هذه المنظومة سياسياً وثقافياً أمر مقلق للفرنسيين، وتحاول اليوم نقل المقر الدائم للفرانكوفونية إلى باريس، ورغم معارضة الأمين العام للمنظمة هذا الأمر، فأنا أعي الأسباب التاريخية والثقافية لانخراط الجزائر والسنغال وساحل العاج تحت مظلة هذه المنظمة، لكن الشيء الذي لم أعه حقاً هو طلب دولة قطر مؤخراً الانضمام للفرانكوفونية!
على أي حال فرنسا تواجه اليوم صيانة تاريخها الثقافي أمام تأثيرات العولمة، وهو الاسم المنمق للأمركة، فحين نريد تسمية الأشياء بمسمياتها نستطيع القول إن أميركا بأمركتها العالمية الحاصلة اليوم لا تزال القطب الأوحد في العالم اليوم، وقد كانت بالأمس قبلة لكل المهاجرين الذين أتوها من القارات الخمس.. ولن تستطيع فرنسا - وغيرها من الدول- حماية نفسها من التأثيرات الحتمية للتاريخ إلا بقبول الانفتاح والتماهي مع الجديد.