حين بدأت الثورات العربية في تونس، والسرعة التي سقط بها رئيس تونس زين العابدين بن علي، وسرعة انتقال الأمر إلى مصر وسقوط حسني مبارك في ثمانية عشر يوماً، خيل لمن جاءهم الدور بعدهما أن القضية تكمن في قضية السقوط، ولم يفكر أولئك الذين ثاروا في اليمن وليبيا وسورية وغيرها بأن القضية ليست في السقوط بل فيما بعده، وكأن السقوط كان زلزالاً ظن الناس أنه انتهى دون إدراك لارتداداته الخطيرة التي قد تدمر بنفس قوة الزلزال أو أشد.

تعودنا نحن العرب في عصورنا المتأخرة على نسيان الأحداث وعدم العناية بالنظر فيها بعقلية منصفة ومحايدة ومعرفية بعيدة عن التفكير الرغبوي الذي يشكل رؤيتنا للأحداث، ومرت علينا أحداث كثيرة مؤلمة وقوية ومفصلية، ذهبت دون أن نمسك القلم والمحبرة لنجرد حجم الخسائر والمكاسب التي تحصلنا عليها من هذه الأحداث، وقد مرت قضية أفغانستان الأولى التي استمرت قرابة الثلاثين عاماً بحلوها ومرها، آهات اليتامى، وأشلاء القتلى، وحجم التدمير دون أن يعرف الناس كم قتل منا فيها، وما هي انعكاساتها علينا، وتبعتها أحوال كثيرة ابتداء من دخول صدام حسين للكويت إلى أحداث الربيع العربي، ولم نجد تلك الدراسات التي تبين الأحداث بالدقة توصيفاً وتحليلاً واستشرافاً للنتائج والمآلات، وكأننا نخرج من حدث لنترقب حدثاً آخر ينسينا ما قبله دون إدراك للترابط بين الأحداث، وأنها يرقق بعضها بعضها، ويأخذ أحدها بحجزة الآخر دون انفصال بين حدث وحدث آخر.

إن الأحداث التي تشهدها سورية وحجم القتل والتدمير الذي يجري في أراضيها وتوسع قضيتها إلى أطراف كثيرة، وما يجري في ليبيا من اضطرابات، ومشكلات تلوح في تونس، ووضع اليمن الإنساني المأساوي والفقر الضارب في أطنابه هناك، والصراع السياسي المخيف في مصر، وانتقال المشكلة لتطال لبنان، كلها تشكل تحديات كبرى في المنطقة، إضافة إلى التدخلات السافرة لإيران في بعض دول الجوار، والحرص على امتدادها في أكثر من مكان، لندرك أن الأحداث مرشحة للانفجار في أي لحظة، وعليه فإننا بحاجة إلى وعي راسخ في النظر إلى مكاسب وخسائر الثورات العربية، ومدى قربها من تحقيق الشعارات التي يلوكها المنفعلون معها، وبحاجة إلى التعالي على الحدث والنظر إليه من موازين الدراسات الجادة المنصفة التي تضع النقاط على الحروف، حتى نقدم الصورة الصحيحة لمن لم تصله النار المرادة من هذه الثورات، وهذا يعني كبح جماح العقل "الجمعي" الذي يسير من غير هدى، وإعادة الاعتبار إلى العقل الواعي الذي يستبصر الأحداث وينظر في عواقبها، وخاصة أن العقل الواعي حين تثور العواطف، وتعلو الهتافات، ينزوي بعيداً لا قيمة له في وسط الضجيج والضوضاء، لكنه سرعان ما يعود من جديد ليقود حركة التغيير وتقييم الحدث حين ينظر المنصفون إلى حجم الكوارث التي يخلفها انزواؤه عن الحدث والتأثير فيه وتسييره.

إن الدراسات المهلهلة والضعيفة التي تقذف بها المراكز البحثية ومعاهد الدراسات العربية تستدعي إعادة النظر في مفهومنا إلى مراكز الدراسات وجديتها في خدمة قضايانا، وأن نقارنها بمراكز الدراسات الغربية لندرك الفرق الجوهري بين مستوى المنهجية المنضبطة والقوية التي تنتهجها تلك المراكز، وبين مستوى ما يقدم في السوق العربية والإسلامية، فإن مستوى الدراسات ضعفاً وقوة هو الذي يحدد مسار التخطيط المستقبلي، والاستفادة من السنن الماضية التي عانت منها الأمة، لنكتشف من خلالها وضعنا الحضاري وموقعنا بين الأمم.

لقد أعطانا القرآن درساً عظيماً في العناية بدراسة التجارب الماضية، وما جرى للأمم، وحث على العبرة والاستبصار (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل .. ) وركز على قضية "المداولة بين الناس (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ليعرف الناس طريقهم في لحظتهم ويرسموا مستقبلهم بناء على العظة والعبرة من تجارب الناس وأحداثهم وما يحل بهم.