احتضنت مدينة "ماردين" في جنوب تركيا، أواخر الشهر الماضي، مؤتمرا فقهيا عالميا نظّمه "مركز التجديد والترشيد"، ومقره لندن الذي يهدف إلى ترشيد المسلمين وتجديد العلوم الدينية والفكرية، بحسب رئيس المركز والمؤتمر العلامة الشيخ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بية، بالتعاون مع جامعة ماردين. وكان موضوع المؤتمر تدارس فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية بشأن أهل "ماردين" التي استولى عليها التتار وكيف يمكن أن يُستفاد من هذه الفتوى في واقعنا المعاصر بناء على اختلاف الواقع. وتأصّل نص الفتوى التي تعرضت فقرة منها للتصحيف. كما عالج مسألة القتال المشروع وغير المشروع ومفهوم الجهاد وضوابطه التي ينبغي أن تحترم.


ومما يُساعد القارئ الكريم على فهم ما تهدف إليه هذه السطور وضعه في أجواء المؤتمر وبواعث الفتوى التي انعقد لتدارسها الظرف الزماني والمكاني لها. وقصة الفتوى، باختصار، أن التتار استولوا على "ماردين" وبقي أهلها فيها رغم تغلب غير المسلمين عليهم فاختلف الناس في النظر إليهم. فسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل ماردين: هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة، ولم يهاجر، ويساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟.. فأجاب: دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا، أهل ماردين أو غيرهم.. والمقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع عن ذلك بأي طريقة أمكنهم، فإن لن يمكن إلا بالهجرة تعينت.. ولا يحل سبهم عموماً ورميهم بالنفاق.. وإما كونها دار حرب أو سلم فهي "مركبة": فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحق و"يعامل" الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحق.


هذه الفتوى التي تعبر عن حيوية وتفاعل أهل الإسلام مع واقعهم وإنزال فهمهم لأحكام الشرع وفق الواقع ولا ينعزلون عنه في أبراج "نظرية" تسجنهم في فهم يعارض الواقع، ويحول دون التفاعل معه.. تعرض السطر الأخير فيها "ويعامل الخارج عن الشريعة بما يستحق" إلى التصحيف فأصبحت كلمة "يعامل" "يقاتل". وهذا التصحيف الناتج عن نقل الخطاطين ونقلة الكتب انحرف بفهم النص إلى آفاق بعيدة ترتب عليها فهم وأحكام أثرت على حياة مجموعات مسلمة في أزمنة وأمكنة متفاوتة. ورغم أن هذا الخطأ قد أدركه بعض الباحثين المدققين إلا أن التصحيف الذي أصبحت به العبارة "ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه" هو النص الشائع والمشهور الذي ترتبت عليه اجتهادات خاطئة كلفت المسلمين الكثير من الدماء والقلاقل والاضطرابات وأدخلتهم في عنت التوفيق بين نص الفتوى الخاطئ والواقع المعاش.





ويقول الدكتور عبدالوهاب الطريري – أحد المشاركين في المؤتمر – إن ترجمة الفتوى بالنص المصحّف إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية أحدث تشويشاً بصورة الإسلام وبلبلة فكرية لدى الشباب الذين اعتنقوا الإسلام في الغرب.. وإن هذه الفتوى، بنصها المحرف، أصبحت مصدراً لجماعات العنف والاقتتال داخل المجتمع الإسلامي، وإن الجدال والمناقشة التي تمت مع هذه الجماعات كانت تدور في فلك النص المحرف.. ولو أن المتحاورين اهتدوا إلى النص الصحيح لما أضاعوا هذا الجهد والوقت.. وإن المؤتمر لو لم يكن له من الفائدة إلا الإعلان عن هذا التصحيح وإشاعته وإبرازه للعالم لكفاه.


وقال العلامة عبدالله بن بية إن المؤتمر كان معنيا "بتجاوز" الرأي القديم الذي يقسم العالم إلى دارين: دار إيمان ودار كفر. وإعادة فهم مبادئ الإسلام في ضوء الظروف السياسية المتغيرة. ورأى أن ظهور الدولة المدنية التي تحمي الحقوق الدينية والعرقية والقومية يقتضي اعتبار العالم كله مكانا للتسامح والتعايش السلمي بين الفصائل والجماعات الدينية. وقال "إن تنزيل فتوى في الزمن الماضي على واقع يختلف عن ذلك الواقع، زمانا ومكانا وحالا ومآلا وإنسانا، تنزيل مخل وغير صائب". وقال" تدارسنا أوضاع العالم في ضوء الفقه وفي ضوء ما ينبغي أن يصنف العالم عليه فوصلنا إلى أن العالم أصبح "فضاء تسامح" تحكمه مواثيق ومعاهدات دولية ولهذا سميناه (فضاء) بدلا من "دار". وتسمية دار ليست توقيفية ومن حقنا أن نتصرف فيها. وخرج المؤتمر برأي موحد أجمع فيه المشاركون على أن "من استند على فتوى ابن تيمية لقتل المسلمين أو غير المسلمين فقد جانبه الصواب ووقع في الخطأ وسوء الفهم".


والسؤال هو: كم من "ماردين" تحتاج هذه الأمة التي تتعثر في ركام من التراث غير الممحص حتى تخلص إلى نتائج تحميها من هذه الانحرافات؟.. هل نحتاج إلى مؤتمرات تخلصنا من أخطاء "القراءات" و"النقل" التي يقع فيها السهو والخطأ كما يحتمل فيها الخطأ البشري الإملائي؟.. هل وصلت العقول إلى درجة من الانحطاط والجمود والحيرة بحيث تنقاد إلى خطأ إملائي يضع نقطتين فوق الحرف فتنحرف وراءه ملايين الكلمات والحوارات؟


لقد شعرت بالحزن والأسى لأن خطأ إملائيا وتصحيفا نقليا لكلام بشر غير معصوم سد آفاق الفهم وعطل العقول لدى الكثيرين عن محاكمة النصوص بمقتضى مبادئ الإسلام العامة.