أذكر أن أول مقال كتبته لمحاربة التدخين كان عنوانه (لا ضرر ولا ضرار) وقد نشر في صحيفة عكاظ في تاريخ 19/05/1996م أي قبل ستة عشر عاماً وما زلت على مدى هذه الأعوام أكتب المقال تلو الآخر حتى تجاوزت مقالاتي العشرات في مختلف الصحف والمجلات، منها (إلى متى نظل أعداء لأنفسنا)، (ونحن ندفع الثمن)، (من يدافع عن صحة أمتنا؟)، (حتى لا يصبح ماضيهم هو حاضرنا)، (تخيروا سُمكم بعناية)، (النساء والتدخين)، (الإعلام والتدخين)، (التدخين انعكاس لمرض أخطر).
وقد شاركت في العديد من الحملات الإعلانية المكثفة، بل وإلقاء عدة خطب جمعة حثا للناس للإقلاع عن هذه العادة الخبيثة القاتلة، وتوضيح كيف أن التدخين يتعارض مع أربعة من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية (حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ الدين).
وفصلنا وأسهبنا في الشرح لكل واحدة من هذه المقاصد بالأدلة الشرعية والأبحاث الطبية وعرضنا تجربة دول كثيرة في الغرب واستعرضنا نجاحهم في التقليص من انتشار هذه العادة الخبيثة القاتلة مقارنة بفشلنا نحن، بالرغم من وضوح المضار والمساوئ، وبالرغم من وجود عامل آخر في مجتمعاتنا من المفترض أن يجعلنا أكثر نجاحا في محاربة هذه العادة الخبيثة بل ونبذها من مجتمعاتنا، ألا وهو العامل الديني.. كيف لا والله من فوق سبع سماوات ينزل علينا شرع السماء، وقد أجمع العلماء على أن التدخين من الخبائث، بل وقالوا بتحريمه شرعا.
وعلى مدى عقدين من الزمن كثفت جهودي لأكشف لغير المدخنين خطر ما يسمى بـ (التدخين السلبي) أو (التدخين غير المباشر) وهو خطر مجالسة غير مدخنين لمدخنين واستنشاق الهواء المنبعث من منتجات التبغ التي يستخدمها الآخرون، ويسمى أحيانا بدخان التبغ البيئي، والذي يحدث نتيجة التعرض لدخان التبغ الذي ينفذ إلى أي بيئة، مما يؤدي إلى استنشاقه من قبل الموجودين داخل تلك البيئة.
وهناك إجماع علمي حول المخاطر الصحية لدخان التبغ (غير المباشر)، وقد أثبتت الدراسات العلمية الموثقة أن دخان التبغ غير المباشر يؤدي إلى العديد من الأمراض تماما مثل التدخين المباشر بما في ذلك أمراض القلب والجهاز الدوري وسرطان الرئة وسرطان الجيوب الأنفية وسرطانات عنق الرحم والثدي وسرطان المثانة وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة وأمراض أخرى مثل الالتهابات في العينين والأنف والأذن الوسطى، خاصة عند الأطفال وانخفاض وزن المولود والإجهاض المتكرر، بل والموت المفاجئ للأجنة والمواليد وغيرها كثير، بل والقائمة تزداد يوما بعد يوم بناء على الدراسات العلمية الجديدة.
علما بأن وباء التبغ العالمي يودي بحياة ستة ملايين نسمة كل عام، منهم أكثر من ستمئة ألف نسمة ممن يقضون نحبهم جراء التعرض لدخان التبغ غير المباشر. وحجم التبغ في السعودية تجاوز1.4 مليار ريال، وهي تمثل المرتبة الرابعة على مستوى العالم في استيراد التبغ. والمدخنون في السعودية أكثر من ستة ملايين ينفقون أكثر من ثلاثين مليون ريال يوميا. وقد أوضحنا سابقاً أن الطريقة الوحيدة الفعالة للتغلب على التدخين السلبي هي منع التدخين في الأماكن المغلقة والعامة منعا باتا وتطبيق اللوائح والقوانين الصارمة لتفعيل ذلك وتطبيق غرامات رادعة للمخالفين. وهذه الأساليب تم بالفعل تطبيقها في العديد من الدول الغربية مثل أميركا وأوروبا وكثير من الدول الصناعية بشكل عام بنجاح.
وأما الطريقة المتبعة في بعض الدول من حيث فصل المدخنين وغير المدخنين في الأماكن العامة والمغلقة وتهوية هذه الأماكن بشكل جيد، فقد أثبتت عدم فاعليتها في القضاء على آثار التدخين السلبي. وقد عانينا على مدى عقدين من الزمن في الحصول على حقنا من الهواء النقي السليم الذي نستنشقه في بلادنا.
كم من المرات تلك التي ابتلي فيها غير مدخن باستنشاق دخان جليس له والمدخن لا يبالي به ولا يحترم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار)؟
كم من المرات شعر غير المدخن أنه مضيق عليه في الأماكن العامة ولا يجد من يستمع إليه إذا تذّمر وطالب بحقه في هواء نظيف؟
كم من المرات اضطر فيها غير المدخن أن يستنشق السموم المنبعثة من فم موظف وخشي المواطن أن يطالب بحقه في الهواء النظيف لئلا يُحرم حقه في إنهاء معاملته؟
كم من المرات لم تجد طاولة واحدة في مطعم يؤمن هواء نظيفا لك ولعائلتك ولأطفالك وأحسست أنك لكونك لا تدخن فإنك مضطهد ومظلوم ومسلوب حقك الذي كفله الله لك في أبسط حقوقك ألا وهو الهواء النقي النظيف؟
كل هذا قد تغير والحمد لله في بلادنا.. أقول تغير لأن وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز أصدر توجيها، جزاه الله ألف خير، لبدء العمل بالأمر الملكي بمنع التدخين في جميع الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة، وكذلك منعه منعا باتا في الأماكن المغلقة والمقاهي والمطاعم والمراكز التجارية غير المكشوفة والأماكن المزدحمة، وستكون هناك غرامات مالية كبيرة ومتزايدة على المقاهي والمطاعم التي تخالف الحظر، كما أنها ستواجه الإغلاق.
ولكني أقول كل هذا سيتغير في بلادنا إذا أردنا ذلك وبسرعة إن شاء الله إذا أعنا المسؤولين على تفعيل هذا القرار، لأن الأمانة لن تستطيع أن تضع مراقبا في كل مقهى وفي كل مطعم وفي كل سوق مغلق، والداخلية لا تستطيع أن تراقب كل المصالح الحكومية والوزارات، وقد يكون من المخالفين في الوزارات والمصالح الحكومية من يظنون أنفسهم أكبر من هذا القرار، ولكنني أؤمن بأنه لو وجد عدد كافٍ ممن يطبق مفهوم المواطنة والوطنية الصحيح والتي هي توطين الخير والصلاح وطرد ونبذ واجتثاث الشر والفساد فإن هذا القانون الصائب الخيّر سيفعل خير تفعيل في وقت وجيز، إن شاء الله.
إنني أتطلع أن أرى مواطنين أخيارا إيجابيين يقومون بدورهم في تفعيل هذا القرار المبارك ولا يقبلون بأي تجاوزات وأي مخالفات، فليس هناك عُذر بعد اليوم، وليست هناك تنازلات، إن شاء الله بعد اليوم، فإن التغيير قد بدأ بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل هذا القرار الحكيم.