مأساتنا الحقيقية هي أننا فقدنا غريزة البحث عن العمل التي كانت تدفع الجيل السابق لاكتشاف الفرص الجديدة، وابتكار الوسائل المختلفة لتطويرها واستثمار كل جزئية فيها! فموسم الحج ـ مثلاً ـ كان سوقاً نشطة لآلاف الوظائف والفرص من بيع "السبح" المصنوعة في مكة والمدينة، والعصائر والأكلات المنتجة محلياً و"طاااازة"، إلى الجزارة والدباغة والخرازة وما بينها من خدمات صغيرة لكنها توفر دخلاً محترماً كبيع الحصى في مزدلفة بعد تمحيصه واختياره بعناية تتناسب مع حقدنا على إبليس الرجيم، وتكييسه بأكياس بلاستيكية صغيرة تدر هي الأخرى ربحاً لمن يقوم بإعدادها من أغلفة الأحذية "الزنوبة" ـ أكرمكنكم الله ـ وفور انتهاء رمي الجمرات تتوفر فرص جديدة لمن يعيد جمع الحصى والأكياس ويبيعها للمستثمر الأول، تماماً كما يحصل في بيع "زكاة الفطر" عدة مرات، ومنه جاءت عملية "التدوير" في سوق "أسهم الخشاش" الكبرى!
وفي غير الحج هناك العديد من الوظائف التي كان يتفتق عنها الفكر العملي بغريزته السعودية الفعالة؛ كـ"كتاب المعاريض" أمام مختلف الدوائر البيروقراطية، الذين مازالوا يستخدمون القلم والآلة الكاتبة وإن واكب بعضهم عصره كالزميل "توماس أديسون" الذي يستخدم "اللاب توب" ويزوده بالكهرباء من بطارية السيارة، ومنه استلهمت شركة الكهرباء فكرة "مولد لكل مواطٍ"!!
كما وفرت البيروقراطية آلاف الوظائف الخدمية من التصوير وبيع الملف العلاقي الأخضر، إلى التعقيب والسمسرة بالوظائف التعليمية والمتاجرة بنقل "شهيدات الواجب". ولعل تقاعس الوزارات المتعاقبة عن حل هذا "الموال" المزمن يعود إلى حرصها على أرزاق المستفيدين من بقية المواطنين فتطبق المثل "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق" تطبيقاً عملياً باستشهاد معلمتين كل شهر منذ مبطي!
ومازال الخير موجوداً ولكن اختلف المستثمرون؛ إذ لم تعد "السبح" تصنع في المدينة ومكة بل في الصين والهند واليابان، ولم يعد الشباب السعوديون يبسطون بها بعد أن نظمت في محال وأكشاك يديرها ويستفيد منها وافدون بعضهم لم يأتِ إلا للحج أياماً معدودات! ومع اختلاف المستثمرين وجهات الاستثمار انقلبنا مستهلكين انقلاب "ضب"! والضب إذا انقلب على ظهره يصعب عليه الرجوع إلى وضعه الطبيعي لأن مركزه وعكرته أثقل من أطرافه، ويصبح شعاره: "سألتُ الله يجمعني بليلى/ أليس الله يفعل ما يشاءُ؟" ولو أطلق "سليمان الراجحي" بداخله لوجد الفرص تتناثر حوله وظائف يحسدنا عليها أبناء "الواق واق" و"قريح العظمى" خذ مثلاً: حاجز أرقام في الجوازات والأحوال والاستقدام، وما عليه إلا أن يأتي مبكراً ويسحب ما يستطيع من أرقام ويبيعها للمراجعين! وما هي إلا أيام ويطور استثماره إلى حجز تذاكر على خطوط النسخ والرقعة الجوية العربية السعودية، ليجد نفسه بعد أيام أخر صاحب شركة سيارات ليست للبيع ولا للتأجير بل ليحجز بها مواقف حول المساجد أيام الجمعة فقط، ثم صاحب شركة نظافة مهمتها فقط أن تنظف الشوارع والحدائق من آثار عمال النظافة الحاليين!