بدايةً أذكر أن تأنيس الجمادات أو أنسنتها كمذهبٍ من المذاهب البلاغية وكمفهومٍ أدبي؛ يتقنه المختصون، ويعتبرونه من الطرق المعهودة في فنون الأدب العربي وغيره، ويُعرفونه بأنه "إنزال غير العاقل، كالحيوان والنبات والجماد، والمعاني المجردة، منزلةَ العاقل، في التعبير والتصوير والخطاب".. و"إقامةُ الجماد مقام الناطقين" كمصطلحٍ أشار إليه من القدماء الفيلسوف والطبيب والفقيه والقاضي والفلكي والفيزيائي المعروف (ابن رشد) حين استعمله في تلخيصه لكتاب أرسطو في الشعر. ومن أمثلته الشهيرة وصف البحتري للربيع: "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً"، وقولهم: "الذكي والحاذق يستطيع أن يتخذ حتى من الجماد قدوة له" وغيره..
يعد (إحرام الكعبة المشرفة) من أشهر مفردات التأنيس والأنسنة التي يستعملها ضيوف الرحمن في هذه الأيام المباركة.. يقول أمير الرَّحالين المسلمين القاضي والفقيه محمد بن عبد الله الطنجي، الذي تسمى باسم أمه بطوطة، أي فطومة؛ وهو يؤرخ لرحلته للحج؛ في كتابه المشهور (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار): "خرجت من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس 2 رجب 725هـ / 1324م معتمداً حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، منفرداً عن رفيقٍ آنس بصحبته، وركبٍ أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة... فجزمت نفسي على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا نصبا.. ــ ثم يقول ــ وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة، زادها الله تعظيماً إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع صوناً لها من الأيدي أن تنتهبها، ويسمون ذلك (إحرام الكعبة) وهو يومٌ مشهود بالحرم الشريف، ولا تفتح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة..".
قصة (إحرام الكعبة) حديثاً أخذتها من فم كبير سدنة بيت الله الحرام الشيخ عبدالقادر بن طه الشيبي، الذي حكى لي أن التاريخ يشهد أن مراسم استلام كسوة الكعبة كانت تتم منذ القدم في دار سادن البيت الحرام، تقديراً لمكانته، وأن التسليم في مصنع الكسوة لم يبدأ إلا منذ ثلاثين سنة تقريباً، وذكر أن الكسوة الجديدة كانت تنقل إلى خلوة آل الشيبي بالدور السفلي من الحرم، وتبقى هناك لحياكة أطرافها، وبعد النسج، وبمشاركة حجاج بيت الله الحرام تلبَّس الكعبة، وترفع الكسوة الجديدة محل القديمة من الجهات الأربع، وتظهر البطانة الداخلية البيضاء، بأشكال تشبه أشرعة السفن، وتثبت في عرى معدنية في حواف السطح، وكان يتم تسليم الكسوة القديمة للسادن، وتظل الكعبة مفتوحة يومياً للصلاة والدعاء، إلى أن يتم "إحرام الكعبة" بلف الجزء الأسفل منها بالقماش الأبيض وبمحيط 47 متراً، وذكر السادن أن لحظة غسل الكعبة من اللحظات المشحونة بكل العواطف، حيث يعد ماء زمزم المخلوط بروح الورد الطائفي والعود المعتق، ولفائف الشاش، ويتم البدء بغسل أرضية الكعبة، وتمسح جدرانها الداخلية بالشاش المبلل بالزمزم المخلوط بالورد والعود بارتفاع متر ونصف المتر.. أخيراً ذكر لي سادن بيت الله أنه تم الرفع قبل أشهر بالتماس السماح بفتح الكعبة الشريفة أكثر من مرة كما كان ذلك قبل سنوات ليحظى بالفضل عامة الناس؛ رجالاً أو نساء.