كمراقبين نطرح هذه الأسئلة الكبيرة والمهمة: لماذا استمرت حالة سورية إلى هذا الوقت؟ إذا قلنا إن سورية لا تجذب الغرب كجاذبية الدول البترولية، التي تدخلت فيها مثل العراق وليبيا، فإن هنا من القيم ومن انتهاك حقوق الإنسان التي نصب الغرب نفسه مالكاً لها ومدافعاً عنها ما يبرر تدخله، ومع ذلك لم يتدخل.. وهل هي صدفة أن تكون روسيا والصين واقفتين بشكل أعمى مع النظام السوري بالرغم من الانتهاكات الصارخة والقتل والتعذيب والظلم للإنسان في سورية؟ ولماذا لم تقم أميركا بدافع ما تؤمن به من حفاظ على حقوق الإنسان ـ لمنع القتل والظلم ـ بتجاوز روسيا والصين والتدخل الحاسم لحل المشكلة السورية بنفس الطريقة التي تدخلت بها في العراق، عندما عارضت فرنسا وألمانيا التدخل الأميركي في العراق، وقال يومئذٍ الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن: "سنذهب بكم أو بدونكم"؟.
هذه أسئلة جوهرية وكبيرة تدفعنا للتشكك في أن هناك أمرا ما يُدبر في الخفاء.. سمعنا الغرب المنافق والمعلوم النفاق يقول عن حالات مصر وتونس واليمن: إنه يقف مع الشعوب ضد استبداد السلطات.. ورأيناه يهرول للوقوف مع الجماعات المنتصرة بالرغم من عدم اتفاقه مع الفكر غير الوسطي الذي تحمله هذه الجماعات.. لكننا نعلم علم اليقين أن الغرب يؤمن بالمثل الذي تحمله ثقافته: "بأن هناك ألف طريقة لسلخ القطة".one thousand ways to skin a cat. والحقيقة التي تدفعنا للتفكير في هذا أننا لم نر زحفاً للربيع، وأنه متوقف عند عتبة دولة سورية على مدى سنة ونصف بالرغم من أن الفترة بين كل ربيع وآخر لا تتجاوز أشهرا.. فهل كان الغرب يعني ذلك وهو الآن يجني ما خطط له؟
هناك توجهات في سياسات الغرب لم يحد عنها بالرغم من أن بعضها قد تسبب في تكوين اتجاهات سلبية نحوه.. من تلك التوجهات أمن إسرائيل، وما ترتب عليه من سياسات منحازة حتى لو كان ذلك على حساب سمعته وأحيانا مصالحه، وما ترتب وسيترتب على ذلك من أحداث وسلبيات.. الاتجاه الثاني النفط وأهمية استمرار تدفقه.. والثالث استمرار بيع منتجاته والرابع حرية تنقله واستقراره في أي بقعة يريدها من العالم.. والخامس حماية الأقليات غير المسلمة في دول الربيع العربي وغيرها، وسادساً تكريس حرية الأديان والقيم التي يرى أنها يجب أن تسود.. وقد كلفت هذه التوجهات الغرب أموالاً طائلة كانت أحد الأسباب الرئيسة في دخوله أزمات مالية ما زال يعاني منها وترتب عليها معاناة بقية دول العالم.. بل إن سياساته لتكريس تلك التوجهات بالقوة ودخوله حروباً خاسرة وصرفه أموالا طائلة لم تؤد إلى مزيد من الاستقرار في العالم ولم تعمل على تكريس السلام أو ردم هوة التقني Digital Divide في العالم التي يتشدق بأهمية ردمها وسعيه لذلك ولم يؤد إلى قلة السلاح حتى ماكان مختصاً بالدمار الشامل. ولعل فكرة الربيع العربي قد تكونت أصلاً في رحم تلك التوجهات وكانت من نتائجها.. كما أن الإصرار على تلك التوجهات قد حافظ على هذا الجنين حتى ولد سليما على شكل ربيع مورق زاهي الزهر والورود..
والآن وبعد أن مضى على الربيع العربي حوالي عامين فإن الغرب، كما عبرت عنه مجلة التايم في عددها الصادر يوم الاثنين 16 أبريل في مقال كتبه فريد زكريا، لم يعد متحمساً له كما كان؛ لأنه كان يعتقد أن ينتج عنه شرق أوسط يتمتع بالحرية لكن الحقيقة أصبحت واهية.. وبالتحديد في مصر التي يقول: إنه يهاجم فيها المسيحيون ومقدمو المساعدات الإنسانية الغربيون والنساء.. كما يقول إنه يتضح من الترشيحات أنها تضم بعض الريديكاليين، إضافة إلى معظم ما نراه من الشغب المتزامن مع نهاية عقود من الاستبداد ووجود القوى الظالمة.. وقد تحدثت في مقال سابق في هذا السياق عن دراسة وضعها بروفسور الاقتصاد في جامعة هارفرد إرك تشيني في بحث قدمه أخيراً حول الربيع العربي..الذي أطلق عليه مصطلح "عجز الديموقراطية" Democratic Deficit في العالم العربي ليطرح عدة فرضيات ربما كانت هي ودراسات أخرى سبباً في رؤية الغرب ونظرته للربيع العربي.. فقد طرح البروفسور تشيني عدة فرضيات منها: أن دولاً إسلامية مثل تركيا وإندونيسيا والبانبا وبنجلاديش وماليزيا لديها أنظمة ديموقراطية لا تسمح بتوجيه اللوم إلى مجرد وجود الإسلام فيها أو إلى الثقافة الإسلامية، وتقول المجلة: إن تشيني وصل إلى فرضية مقنعة مبنية على التاريخ القديم والاقتصاد الحديث، ذلك أنه لاحظ أن عجز الديموقراطية اليوم يظهر في أراض تم غزوها من قبل جيوش عربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في عام 632، ومعنى هذا أن البروفسور يربط عجز الديموقراطية بالفتوحات الإسلامية التي كان هدفها الدعوة إلى الدين الإسلامي الحنيف والصحيح، والذي ألغى كل الأديان التي قبله. وهذه سقطة كبيرة من ضمن السقطات التي يرتكبها المثقفون والباحثون الغربيون، الذين يكتبون بجهل عن الإسلام والمسلمين.. وهذا مبحث آخر قد نعود إليه لإثبات أن الدين الإسلامي هو دين الحريات. والإثباتات والاستشهادات كثيرة من القرآن والسنة.. لكن هذا ليس موضوعنا اليوم.
وخلاصة القول، إن الغرب لا يرى في الربيع العربي مصلحة له ولحلفائه، ولا حلاً لمشكلات الحريات والديموقراطية وتحرر الاقتصاد.. وهو يلجأ إلى طرق مختلفة لوقفه.. وهو في معتقده هذا يرجع إلى التاريخ والعادات المتشكلة فيه.. الغرب يعرف أنه مجبر على التعامل مع من ينتصر حتى ولو لم يتفق معه.