في وقتنا هذا تجتاح الوطن العربي موجات عاتية من الثورات والتوتر، وهذه الأحداث شغلت المفكرين منا والكتاب والمحللين السياسيين والشارع العربي بأكمله. وهذا أمر محتم لما يشغل البال والخاطر العربي. ولكننا لو أمعنا النظر في المحرك الأساسي لهذه العواصف، سنجد أن عدم الاستقرار الأسري والوعي القومي من أهم الأسباب التي أغفلناها. ولعل ما في هذا الأمر هو ما أطلق عليه (الزواج الصامت) ويطلق عليه علماء النفس "الطلاق الصامت" وهو أن يحيا الزوجان كلاهما في منزل واحد يأكلان ويشربان وينامان ويشتغلان بأمورهم الدينية والدنيوية ولكن بمعزل عن الآخر، في ظل مجتمع لا يحترم المطلقين والمطلقات مما يجبرهم على الصمت، كما أن هذا الصمت يحقق لهم بعض المصالح التي لا يستطيعون تحقيقها في ظل مجتمعات تقليدية على الصُعُد المحلية والعربية. ومن هنا تضطر المرأة أو الرجل لتقبُّل هذا الوضع والعمل على التكيف معه، ظناً من أحدهما أو كلاهما أن هذه هي الطريقة المثلى للعيش في أمان وسلام مجتمعي.

لم يكن هذا النوع من السلوك سواء للرجل أم للمرأة سوى نوع من الأنانية وحب الذات والهروب من المشكلة، فكل هذه الأنواع من السلوك لها مسالك ومدارك في علم النفس تقذف بالحياة الأسرية إلى الجحيم، وتعد مرضا نفسيا يرقى فيما بعد إلى أهم الأمراض الاجتماعية التي تقوض أركان المجتمع برمته، وإن دل على شيء فإنما يدل على البعد عن مسالك الدين ومناهجه، الذي كرمنا به الله سبحانه وتعالى، بذكر كل التفاصيل والمشكلات وحلها في كتاب الله وسنة رسوله، إلا أننا انشغلنا بأمور دنيوية غلبت على سلوك الأفراد وتوارى السلوك الإسلامي في المجتمع الحديث، ألا وهو مراقبة الله في السر والعلانية واتقاء شرور مزالق ومهالك قد لا يُحسب حسابها. ولعل توضيح ذلك من شأن الدعاة والواعظين.

أما إذا نظرنا إلى البنية الاجتماعية في مجتمعنا العربي فنجدها تقترب إلى الاتفاق جميعها عن الاختلاف في هذا التكوين، وذلك يرجع إلى الثقافة العربية في مجملها سواء في النظرة إلى المطلقين أونظرة المجتمع أيضا إلى أبنائهم؛ مما يسبب الحرج في المصاهرة والوضع الاجتماعي ككل حتى على مستوى العمل، كما أن الحقل الاجتماعي يظهر عليه طفح مضطرب من هؤلاء الأبناء في سلوكهم وفي تعاطيهم للحياة الزوجية المستقبلية، وبذلك يكون المجتمع مضطربا في أركانه العظمى وهي البنية النفسية للفرد، فيصبح بذلك الفرد غير سوٍي في تعاطيه الفكري سواء على الصعيد المجتمعي أو التعليمي وعلى الصعيد السياسي أيضاً، لأن الفرد المضطرب لا يقوى على اتخاذ القرار، وإن اتخذه كان غير ذي حصافة وتدقيق، إن دقق كان قراره أقرب إلى العشوائية والارتجال، وذلك لما في تكوينه الشخصي المبني على كثير من الهنات إن تربى في محيط أسري مضطرب غير قائم على مواثيق زوجية تحفل بكلا الطرفين أمام الأبناء والمجتمع وأمام الله عز وجل، وهذا أهم ما في الأمر.

يقول الدكتور عادل صادق في كتابه "الطلاق ليس الحل": البيت المستقر يخلق طفلا قويا تملؤه الثقة بنفسه وبوالديه.. والبيت المهزوز ينزع هذه الثقة ليخلق طفلا وإنسانا مهزوزا غير قادر هو نفسه على حفظ الاستقرار والثبات لبيت المستقبل.. غير قادر على الثقة بالحياة".

ولعل قول د. صادق هذا يدق ناقوس خطر دق في بيوتنا منذ أربعين عاما ولم يكن ظاهرة اجتماعية قبل ذلك، إلا أن أعباء الحياة وتدرج أعمال الرجل والمرأة جعلا منه ظاهرة تتسم بها معظم بيوتنا منذ أربعة عقود، فأصبح مفهوم السلطوية والدكتاتورية يتفشى حتى أصبح حقا مكتسبا إما للرجل أو للمرأة أيهما يفرض السيطرة. يقول الخبير النفسي سالف الذكر" الدكتاتورية هي أنانية ونرجسية وسادية. الدكتاتورية قهر، قهر لمعنى الإنسانية، أي أن الدكتاتورية حالة لا إنسانية. وإذا كانت الأم دكتاتورية تصبح ابنتها مثلها، وإذا كان الأب دكتاتوريا يصبح ابنه مثله. ومن هنا يكونان زوجين لا يحققان السعادة".

إن المجتمع من آباء وأمهات لا يدرك مدى خطورة حياة الآباء والأمهات مع بعضهما البعض، ومدى خطورة هذه العلاقة على تكوين النسيج الاجتماعي واضطراب الهوية والقومية وما هو أبعد من ذلك، فالزواج الصامت أو الطلاق الصامت هو "هوة" سحيقة يقع فيها البناء الاجتماعي، فيقول هذا الخبير العالمي: "يتعلم الطفل الصمت. يتعلم المشاركة النصفية والتبادل غير المكتمل والتمازج المنقوص والانصهار المحدود والتفاعل القليل جدا. إنه صمت الأفكار وصمت العواطف وصمت الانفعالات وبذلك تكون هناك "هوة" أو جدار تواصل غير كامل.. أسلوب، طرق، طباع، شخصية معينة، شكل من أشكال التفاعل والتبادل الإنساني" وذلك لأن الأزواج الصامتين ينتجون أبناء صامتين، والصمت من وجهة نظر علماء النفس هو الصمت السلبي، عدم القدرة على التعبير والتبادل والتفاعل والمشاركة في كل مناحي الحياة وكل خطرات النفس وذبذبات الوجدان و"تفانين" الفكر، فالحياة الزوجية هي فن التقارب والالتصاق والذوبان، والحياة الزوجية هي حياة التعبير.

يقول نفس الخبير عن الزوج أو الزوجة الصامتين: "إننا نتوقف أمام توقف المشاعر، توقف العواطف، تصلب الوجدان، ربما حتى لا مشاعر سلبية، أحدهما يتوقف عن الإحساس بالآخر، أو قد يتوقف إحساسهما معا في آن واحد "

فلا ينبغي أن نترك الأمور على أعنتها، إذ يجب تلافي هذا المرض الاجتماعي الخطير منذ اليوم الأول من الزواج، أو بعد سنة أو عدة سنوات. وقد تسبق هذه الفترة مشاحنات، عدم ارتياح، صراع يأخذ شكلا مستمرا كما أقره علم النفس، وتكون حالة الطلاق بعيدا عن الذهن في بداية الأمر، إلا أنه يترك رواسب تؤدي في النهاية إلى هذا السلوك، لأن هناك إحساسا راسخا بالاستمرار وإحساساً راسخا بالانفصال، إحساسان متناقضان يجتمعان في نقطة واحدة وهي الصمت المطبق. ومن هنا تكمن الخطورة على صناعة الأجيال ومن ثم صناعة الأوطان.