لم يكن في حسبان أي من اليمنيين، ولا في خلد المتابعين والمهتمين بشؤون اليمن، أن يحصد الرئيس عبدربه منصور هادي، ذلك القدر من المساندة السياسية، ويمتلك القدرة على توجيه دفة الحكم، وإدارة الملفات الشائكة في وقت قياسي، وخلال مرحلة شديدة الحرج وتعد – في نظر المختصين بعلم الأزمات – الأولى من نوعها في تاريخ اليمن المعاصر.

أحيانا تكون مفاجآت الزمن مذهلة، وتفوق حساباتنا الافتراضية. فالرجل الذي لا يتحدث مع وسائل الإعلام، والمحال على الظل يغالب امتعاضه من مزاج المصادرة.

لكن وعلى حين غرة تواتيه فرص لطالما حاول تحاشيها، وتهب على القرب منه عاصفة ليس له يد في صناعتها، ويصبح بحكم رصانته وصبره متخذ القرار، وموضع تأييد الشعب، وتحفه مساندة ودعم الأشقاء من دول الجوار الإقليمي، وأصدقاء اليمن على مستوى العالم.

الأسبوع قبل الماضي كان الرئيس هادي، قد قفل عائدا إلى العاصمة صنعاء بعد رحلة مكوكية، بدأها من بريطانيا وختمها بمباحثات هامة مع خادم الحرمين الشريفين، وشملت الرحلة كلا من أميركا وألمانيا وفرنسا، وجاءت محصلتها على نحو غير مسبوق. وفيما أعلم فإن اليمن لم يكن ذلك البلد المجهول، ولا الحيز الجغرافي الغائب عن سمع وبصر العالم، وما من خرافة جعلت المنظمات الدولية تكتشفه وتعترف بوجوده على خارطة الأرض ممثلا برئيسه الجديد. إذ لم يكن ثمة بلد أكثر شهرة وحضوراً مدوياً من اليمن. فهو الأول من حيث القدرة على استقطاب المتناقضات، والأول في ارتفاع معدلات الفقر، والأول في انتهاك القوانين، ونهب ثروات الشعب، واتساع دائرة التطرف لدرجة أن المؤسسات والدول الشقيقة والصديقة بلغت حد اليأس من إمكانية التعامل مع حكوماته المجردة من المصداقية، حيث تقوده دولة هلامية، مهددة بالفشل وسوء الإدارة، وهيمنة القرار الفردي. غير أن مصداقية هادي وجدية توجهاته، أديا مفعولهما في استعادة ثقة المجتمع الدولي واختلاف خطابه الراهن مع الحكومة اليمنية عما كان عليه في عهد صالح. إذ قال الرئيس الأميركي أوباما في رسالة سابقة للرئيس هادي: "إننا نتطلع بأمل كبير لزيارتكم القادمة إلى الولايات المتحدة الأميركية"، معبرا عن تمنياته بتطور العلاقات اليمنية الأميركية، ووقوف بلاده إلى جانب الشعب اليمني، معرباً عن تفاؤله وثقته بقدرة اليمنيين على تجاوز الظروف الصعبة.

والحقيقة، أننا منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن لم نعد نسمع لهجة دبلوماسية بهذا المستوى من اللياقة والاحترام، ولقد صار مألوفاً أن يحل رأس السلطة في اليمن ضيفاً ثقيلا، حيث حطت به عصا المسافر، أو اضطرت دولة للنزول على مضض عند إلحاح رأس النظام السابق في طلب زيارتها. ذلك أن سياساته أردته بتكتيكاتها الآنية، مثلما أودت بمكانة دولة وتاريخ شعب ومصير ومصالح وطن.

صحيح أن فترة حكم هادي ما تزال غضة طرية، وتقف في مواجهتها صعوبات جمة، وما يزال أمامها الشيء الكثير، لكنا نعتبر الملكات القيادية التي أغفلها نهج الاستحواذ جزءا من ثروة بشرية تزخر بكفاءات وطنية دمرتها هواجس ووساوس النظام السابق، ونالتها سياسات الإقصاء والتمييز، انطلاقا من ثوابت التوريث في بلد يزدان بطلاء الجمهورية!.

واليوم، فإن الرئيس هادي مطالب بإعادة الاعتبار لمقدرات العقل، وتقديم الأداء على الولاء، وإتاحة المجال أمام الكفاءات اليمنية المصلوبة على رصيف النسيان، كما يؤمل منه إقامة موازين العدل والمساواة، وتكافؤ الفرص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والنظر إلى الوظيفة العامة بمختلف مستوياتها كمتطلب رئيس لبناء الدولة الوطنية، ذات المضمون المدني المتحرر من ترسانات الصراع الحزبي ومحاصصاته الرعناء، وتوجيه الاهتمام ناحية التعليم، والمسارعة في مراجعة وتصويب برامج التنمية البشرية، واجتراح آفاق جديدة تفضي باليمن إلى الاستقرار وسيادة القانون.

بيد أن هذه التحديات تستدعي وجود بدائل وآليات مختلفة ما يدعونا للسؤال: هل بوسع الرئيس هادي العثور على مكونات قوة بديلة عن الأدوات المعتاد إنتاجها من خامات الصراع التقليدي الذي يسعى لإحكام سيطرته على متاحات التغيير البنيوي الشامل؟.

ذلك ما نستطيع اعتباره امتحاناً استثنائياً أمام قائد هو الآخر من طراز استثنائي.. ومن يدري فربما كان هذا البلد موعوداً بمستقبل زاهر بعد عمر من قسوة الحياة داخل النفق المظلم.