في حديثنا السابق، أجرينا مقاربة بين نتائج نكسة يونيو1967 ومعركة العبور المجيدة التي احتفينا بمرور الذكرى التاسعة والثلاثين لها، هذا الشهر. لقد خلصنا إلى أن حرب يونيو أكدت هزيمة السلاح، وثبات السياسة. في معركة أكتوبر انتصر السلاح، وتأكد عجز الحلول السلمية بمفردها عن معالجة الموقف، ما لم تتوافر إرادة القتال. ولكن نتائج تلك الحرب أدت إلى خلق معادلات جديدة عبر عنها الرئيس المصري الراحل في ثلاث مقولات. الأولى، أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب مع إسرائيل. والمقولة الثانية، أن 99 بالمائة من أوراق الحل هي بيد الولايات المتحدة الأمريكية. والثالثة، هي أن التوصل لحل سلمي للصراع مع الصهاينة، يتطلب انتقالا استراتيجيا في خارطة العلاقات العربية- الدولية. ومعنى ذلك تحديدا، هو أن تنتقل مصر وبقية دول المواجهة بتحالفاتها من الخندق السوفييتي إلى الخندق الغربي، وتحديدا بالولايات المتحدة.
والنتيجة المنطقية لهذه التحولات السياسية الدراماتيكية، هي تراجع تأثير دور مجلس الأمن الدولي، والجمعية العمومية للأمم المتحدة، والدول في صنع القرار، بشأن الصراع العربي الإسرائيلي. وقد تأكد ذلك في الجلسة الافتتاحية "اليتيمة" للمؤتمر الدولي الذي عقد في جنيف، واستثني من حضوره الوفد الفلسطيني، ولم يتجاوز دوره الجانب الاحتفائي، المتمثل في كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع، لمندوبي الدول العظمى.
وكما أن المقاربة الأولى بين حربي يونيو وأكتوبر قد أكدت قبول مختلف الأطراف العربية بغلبة السياسة على السلاح، منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا، فإن المقاربة الفلسطينية بين المقاومة واعتماد الحلول السياسية، أكدت هي الأخرى، غلبة التسوية على المقاومة، والدويلة على الدولة، كاستراتيجيات لتحقيق الحلم الفلسطيني في الاستقلال وحق تقرير المصير.
لقد مر الكفاح الفلسطيني المعاصر بمرحلتين رئيسيتين. الأولى، كانت جاذبية الكفاح فيها متجهة صوب المخيمات الفلسطينية بالشتات. وخلال هذه المرحلة، تمسك الفلسطينيون بالنضال لاستعادة فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، واعتمد الميثاق الوطني الفلسطيني الكفاح المسلح سبيلا وحيدا، لتحقيق هدف التحرير. وبالقدر الذي تواجه فيه المقاومة ضربات عنيفة من قبل الإسرائيليين، والدول العربية التي تستضيف مخيمات اللاجئين فوق أراضيها، بالقدر الذي يخبو فيه الأمل بإمكانية تحرير فلسطين، بحدودها التاريخية.
في الأراضي الفلسطينية التي احتلها الإسرائيليون عام 1967، تختلف المقاربة. فقد أمل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، في المراحل الأولى للاحتلال، باستعادة أراضيهم من خلال الحل السلمي وقرارات الأمم المتحدة. ساد تصور لديهم، آنذاك، بأن تعود السلطة في تلك الأراضي، بعد تحريرها، إلى المملكة الهاشمية في ما يتعلق بالضفة الغربية، وأن يعود قطاع غزة للإدارة المصرية.
ولا شك في أن القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، وتحركات مبعوث الأمم المتحدة، غورنار يارنغ، ومبادرة روجرز، جعلت بوابات الأمل مفتوحة لدى فلسطينيي الضفة والقطاع باحتمال تحرير أراضيهم بواسطة الحلول السلمية.
إن تفاؤل الفلسطينيين بالضفة والقطاع، بإمكانية تحرير أراضيهم من الاحتلال الصهيوني، بالحلول السياسية، هو الذي أفشل مشروع الرئيس عرفات في الأيام الأولى للاحتلال الصهيوني بتثوير تلك الأراضي، وفراره من نابلس بعد مطاردة "الإسرائيليين" له، في أواخر عام 1967، وفشل استراتيجية فتح، آنذاك في شن حرب شعبية ضد الكيان الصهيوني، تنطلق من الأراضي التي احتلت حديثاً.
وهكذا فإنه بالقدر الذي فشلت فيه احتمالات الحل السلمي، تصاعد النهوض الفلسطيني في الضفة والقطاع، وتعزز دور منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل، لكن تصاعد النهوض هذا لم يكن متوافقاً مع استراتيجية فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، في تحرير الأرض من النهر إلى البحر.
فقد رأى قادة هذا النهوض، أن المطالبة بتحرير كل فلسطين، هو مطلب عدمي، تقف في مواجهته عوامل كثيرة، من ضمنها الموقف الدولي والواقع الإقليمي والعربي، والقدرات الذاتية للفلسطينيين. وأن الممكن طرحه فقط، هو تحرير أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس الشريف، الذي ركزت الأدبيات الفلسطينية عليه، منذ منتصف السبعينات باعتباره عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة.
الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، هو محطة انتقال رئيسة في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، من هدف التحرير الكامل، واعتماد استراتيجية الكفاح المسلح، إلى إقامة دولة على رقعة صغيرة من فلسطين التاريخية، واللجوء للحل السياسي، القائم على الاعتراف بالأمر الواقع، كاستراتيجية للحل.
لكن هذا الغزو لم يكن بمفرده، سبب هذا الانتقال. فنقطة التحول في التعادل بين الداخل والخارج وانتقال مركز الجاذبية، هي انتفاضة أطفال الحجارة، التي عمت مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعكست تصميم الفلسطينيين على انتزاع حقوقهم، وإقامة دولتهم المستقلة. وقد أعادت الانتفاضة الاعتبار دوليا وإقليميا وعربيا للقضية الفلسطينية. فهذه القضية التي أصبحت إلى الأسفل في قائمة القضايا العربية، بعد خروج المقاومة من بيروت، وانشغال العرب جميعا بالحرب العراقية الإيرانية، ومشكلة الصحراء المغربية، عادت بقوة إلى الواجهة. وكان طبيعياً ومنطقياً أن يكون المطلب الرئيسي للمنتفضين، هو جلاء الاحتلال عن الضفة والقطاع، وليس التحرير الكامل لفلسطين.
لم يكن بإمكان قيادات حركة المقاومة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، أن تواصل استنادها إلى عمودها الفقري، في الشتات، بعد هزائمها، في الأردن ولبنان، فذلك يعني نهاية محققة لهذه القيادات وفشلا محتما لمشروع التحرير. ولذلك تأتي استجابتها لنداء الانتفاضة في سياق موضوعي للاحتفاظ بالبقية الباقية من الحلم الفلسطيني في التحرير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ما علاقة ذلك بموضوعنا هذا؟ وما هي الخطوط الرئيسية لهذه الاستراتيجية، وأين نقف الآن في صراعنا مع الصهاينة؟ ذلك ما سوف نواصل قراءته في الحديث القادم بإذن الله تعالى.