أجزم بكل الثقة أن تفاصيل ساعتين ونصف الساعة من مغامرة النمساوي فيليكس بالقفز الحر من ارتفاع أربعين كيلاً من الأرض قد أعطت أطفالي الصغار ما لا يمكن لكتب العلوم أن تعطيه لهم طيلة عام كامل. ولا أعلم اليوم، هل أكتب لكم السخرية أم الجد في الفوارق بين أمتين ونظامين وعالمين. هل أكتب لكم عن (سارة) التي كانت تسرق (التلفزيون) بعين، وبالأخرى تسرق الجُمل المحنطة لكتاب التاريخ الذي ستؤدي فيه امتحان الفترة الأولى من العام في الصباح التالي. هل أكتب عن عقول القرن التاسع أم عن عقول القرن القادم التي حولت بضع غرف في مدينة أميركية نائية إلى فصل دراسي عولمي، تقول التقارير إن الأطفال دون سن الثانية عشرة كانوا وحدهم يمثلون 70% من مشاهدي هذا الحدث الضخم حول العالم. هل أكتب عن (عقلي المتحجر في جمجمتي منذ نصف قرن مضى حين كنت أظن أن – فيليكس – سيذوب خارج الغلاف، أم عن عقلي (محمد وخلدون) الصغيرين اللذين يشرحان لي تفاصيل البدلة الفضائية ومكونات الخوذة وأجهزة معادلة الضغط حول المغامر الذي ستحميه حتى يعود إلى داخل الغلاف المعتاد. هل أكتب عن عقلي الذي ينهر سارة كلما استغرقت في متابعة (فيليكس) على حساب الوقت الثمين الذي يجب أن تقضيه في قراءة مادة التاريخ. يثبت (برهان فيليكس) أننا لا نعيش خارج الزمن ولا عالة على هذا الكون فحسب، بل يبرهن أننا، وبالإصرار، نعدم عقول هذه الأجيال بهذا الحشو النظري المخيف ولهذا لا غرابة أن يقبع العرب والمسلمون في ذيل الأمم وفي صدارة قائمتها من الأسفل. نحن المستضعفون على هذه الأرض، وبما قدمت أيدينا، لأننا، وبالإصرار، نعيش في كتب التاريخ ونمتحن أطفالنا فيها أربع مرات في الفصل الدراسي مضروبة في عشرين مادة حشو يركلها أطفالنا بعد نهاية العام: هؤلاء يختصرون كل قصة العلوم في مجرد عرض فضائي لساعتين. لماذا؟ لأن الذين يضعون مناهج مدارسنا هم مثل عقل كاتبكم ينتمون إلى جيل منقرض. يعودون إلى زمن لا يعرف حتى الفارق الرقمي الهائل بينهم وهذا الجيل الخلاق الذي يشتم مدرسته كل صباح لأنها مجرد كتاتيب عندما يقارنها بما يعرفه من أجهزته الذكية. لأننا جيل منقرض يكتب لجيل جديد كتبه ببراهين عباس بن فرناس بينما هم منذ أشهر يصممون ويحاكون منارة فيليكس على أسطوانة مدمجة. يقرؤون في مدارسهم تاريخ القرن التاسع لمجرد الامتحان ويدخلون غرفهم في المنزل للحياة مع عوالمهم الافتراضية على الشبكات الإلكترونية.