لم يكد ذلك القاتل ينهي محكومية الحق العام, حتى عاد من جديد إلى السجن، وفي قضية قتلٍ مرة أخرى, وخلال أسابيع قليلة وبعد صدور الحكم الشرعي بالقصاص؛ دُشِنت حملة ردح صاخبة بهدف جمع ملايين الدية، تستعمل فيها وسائل اتصال متعددة, كالصحف والمجلات، وزيارة الوجهاء، ودعوة الأقارب والأصدقاء، والأعراف القبلية، ومؤخراً انضمت مواقع التواصل الاجتماعي إلى مكونات الحفلة، بل تربع "تويتر" على قائمة الوسائل المستخدمة، كونه يتميز بالسرعة، والأهم من ذلك القدرة الفائقة على بناء رأي عام متعاطفٍ بشكل لا يصدق.
وهكذا برزت في المملكة خلال السنوات الماضية صناعة "جمع ديات العفو"، ولك أن تعلم أن هذه الصناعة الوليدة لها مستفيدون كُثر، سواء من أهل الجـاني أو حتى من أقارب القتيل، وما بينهما من وجهاء مجتمع وسماسرة دم وحفنة إعلاميين! يحصلون على نسبة محددة من المبلغ المالي المجموع تجـاوزت المـلايين مـن الريالات في بعض الحالات!
وللحقيقة فلقد تنبه بعض القضاة لهذه الظاهرة المتنامية، وفي دراسة مسحيّة نفذتها وزارة العدل بالتنسيق مع هيئة كبار العلماء عام 1428 وشملت 35 قاضياً على مستوى المحاكم الكبرى وهيئات التمييز، لوحظ تفشي ظاهرة المبالغة في مبالغ ديات العفو في مختلف مناطق المملكة، مما أدى إلى إرهاق أهل الجاني والأقارب، وتحوّلها إلى مزادات علنية للمتاجرة بالدم, حتى غدت تجارة رابحة على حد تعبير الدراسة, المثير في الأمر أنه في عام 1430 وافق المقام السامي على توصيات لجنة دراسة الظاهرة، فصدر قرار بمنع إقامة المخيمات واللوحات الإعلامية لجمع تبرعات الدية، كما شمل القرار منع القاتل أو ذويه من استخدام أية وسيلة إعلامية لجمع الأموال، بينما حددت التوصيات جملة من الضوابط لتنظيم عملية جمع مبلغ العفو، بواسطة لجان "إصلاح ذات البين" في إمارات المناطق، أو إنشاء لجان عند الحاجة في المحافظات للإشراف على تنظيم اجتماعات ممثلي ذوي الشأن للتفاوض والصلح، وحدد عضويتها بثمان جهات حكومية هي: وزارات الداخلية والعدل والشؤون الإسلامية والمالية والشؤون الاجتماعية والثقافة والإعلام ومؤسسة النقد العربي السعودي ورئاسة الاستخبارات العامة، وكان الأمر السامي الذي صدرعام 1423 قد عد المبلغ الذي يتجاوز خمسمائة ألف ريال مقابل العفو عن القصاص مبالغا فيه.
وللأسف وحين التزمت الصحافة المحلية بالتوقف عن نشر مناشدات جمع الأموال، وتغطية مخيمات الجمع، إلا أن هذه الظاهرة وجدت مؤخراً لها متنفساً أكثر تأثيراً؛ وهي مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً عبر "تويتر"، فانشئت الحسابات المختلفة، وأضحى "تويتر" ساحة للاستجداء، واللعب على أنغام القبلية والطائفية وأي شيء آخر، فقط المهم جمع هذه الملايين، دون النظر إلى قصة "القاتل"، أو تاريخه الإجرامي.
من جهة أخرى يرى بعض علماء الشريعة أن الساعين في جمع هذه الأموال يعملون على تعطيل حدٍ من حدود الله، وأنهم موزورون غير مأجورين, لأنهم يتجاهلون أن للمقتول حقاً على القاتل، وهو القصاص في الدنيا، وحقاً في الآخرة، بل إن بعضهم يجمع مبلغ الدية من الصدقات والزكوات، التي ينتظرها الفقراء والمساكين، لتذهب لتعطيل حدٍ من حدود الله، بل ذهب بعض العلماء إلى عدم جواز السعي في إعتاق الرقاب التي استحقت القصاص بسبب عدوانها وظلمها، كما يفتي الشيخ صالح السدلان (أستاذ الدراسات العليا في جامعة الإمام) ومع تجاوز الإسراف في جمع الأموال وحرمان المحتاجين الحقيقيين منها فإن هذه الظاهرة لها جوانب سلبية أخرى، ليس أولها فقط على أولياء الدم، حين يرون قاتل أبيهم أو أخيهم وقد أخلي سبيله بعد دفع عشرات الملايين، بل وفتح الباب للجاني نحو مزيد من الاستهتار بالنفس البشرية، ليعتدي على أفراد آخرين مرة ثانية وثالثة خاصة إذا علم الجاني أن هناك من سوف يضغط بشدة على أولياء الدم، ثم يجمع ملايين الدية بسهولة، وما قصة "المفحط القاتل" ببعيدة عن هذا، فلم يكد يخرج من قضية قتل خلال مغامرة تفحيط؛ حتى قتل نفساً ثانية بنفس الطريقة! وهكذا دواليك.
يقول الحق سبحانه وتعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" (الشورى,40), والمقصود هنا العفو لوجه الله سبحانه دون مقابل مادي، ذلك أن من يفقد عزيزًا عليه، يعلم أن أموال الدنيا كلها لا تعوضه، بل هو يعفو متطلعاً إلى الأجر والثواب من عند الله سبحانه وتعالى، فهل يستوي ذلك مع من يعفو مقابل ملايين الريالات!!
في الجهة المقابلة كل الخوف أن يتحوّل هذا "البازار" إلى استثمار طويل الأجل من قبل "المجني عليه"، فبدلاً من أن يورّث الرجل أبناءه وزوجته قرضاً وبيتاً متهالكاً، يقدم رقبته على طبق من ذهب، وليعتق أهل الدم القاتل بدية من فئة الملايين العشرة، وهكذا يحفظ مستقبل عائلته برصيد من فئة الملايين!
خلال الأشهر الماضية ومع دخول "تويتر" لاعباً جديداً في وسائل جمع ملايين الدية، أضحى من الضروري التوقف أمام هذه الظاهرة، ومحاولة الحد منها قبل استفحالها، نحو ظواهر أكثر سلبية، وأهمها استرخاص النفس البشرية، وكذلك استرزاق بعضهم من هذه المائدة، والأمل معقود أولاً على أصحاب الفضيلة القضاة لمحاربة هذه الظاهرة والتصدي لها.