في الوقت الذي يزداد فيه عدد العاطلين والباحثين عن عمل نجد ازدياد أعداد العمالة الوافدة (بمقدار 2.5 مليون عامل أجنبي في الفترة بين 2004-2010) وذلك لكوننا في الواقع نعيش طفرة اقتصادية كان من المفترض أن تنعكس إيجابا على شبابنا لو أن بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية لم تكن تعاني من تشوه واضح نتج عن تراكمات وأخطاء الطفرة الأولى. نحن بحاجة لحلول من خارج الصندوق، ومن خارج كتيبات الأفكار التقليدية التي تلجأ لها البيروقراطية الحكومية، للتعامل مع المشاكل العارضة (مقال الكاتب في الوطن: أخطاء الطفرة الأولى وأخطاؤنا اليوم بتاريخ 7/ 10/ 2012).
أحد أبرز الذين طرحوا أفكارا من خارج الكتيب التقليدي كان هرناندو دي سوتو Hernando De Soto المفكر وأستاذ الاقتصاد من بيرو، الذي ساهم بنظرياته وأفكاره في التسعينات والثمانينات في إصلاح الوضع الاقتصادي لبيرو بشكل كبير، وبعيدا عن حجم التكريم الهائل الذي حصل عليه واعتباره أحد أبرز مفكري القرن الاقتصاديين، فإن مجلة إيكنومست الشهيرة اعتبرت مؤسسته: معهد الحرية والديموقراطية Institute of Liberty and Democracy ILD ثاني أهم مركز تفكير Think Tank في العالم، نظرا لحجم تأثير نظرية دي سوتو فيما يخص التنمية الاقتصادية، وكذلك لأعمال المعهد مع 23 دولة ساهم بشكل فعال فيها.
الكتاب الأشهر لدى سوتو هو "لغز رأس المال: لماذا تنجح الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل الأماكن الأخرى" Mystery of Capital: Why Capitalism Triumphs in the West and Fails Everywhere Else، ويلخص هذا الكتاب نظرية دي سوتو الأساسية المتعلقة بتحليل ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمي Informal Economy وهو مجموعة النشاطات الاقتصادية التي تتم خارج الإطار الرسمي للاقتصاد، ولا تخضع بالتالي للضرائب أو إشراف الحكومة، أو تدخل ضمن الناتج الوطني للدولة، ومثال ذلك: ما يحدث في الدول النامية من بناء للمساكن العشوائية أو إنشاء محلات والقيام بنشاطات تجارية بعيدة عن مراقبة الدولة أو إشرافها، في مدينة كالقاهرة مثلا، حيث تكثر الأحياء العشوائية، قد يجد المرء محلات تجارية وورشا وخلافه في تلك الأحياء تعمل ولكن دون أن يكون لها أساس قانوني، وبالتالي فتلك المساكن العشوائية والنشاطات التجارية تصبح خارج حساب الاقتصاد الرسمي للدولة، ولا تحتسب ضمن الناتج الوطني الذي هو بالأساس تعبير عن حجم الاقتصاد. بناء على هذا صاغ دي سوتو مصطلحه الأهم: رأس المال الميت Dead Capital، والمقصود به تلك الأصول غير المعترف بها قانونيا، ومن ثم تشكل رأس مال غير مستفاد منه في الاقتصاد.
أبرز مثال على هذا، هو المساكن العشوائية التي يبنيها الفقراء، حيث إن هذه المساكن لا يمكن لهم بيعها أو رهنها والحصول على مقابل مادي لها، وبالتالي تصبح هذه الأصول خارج دائرة الاقتصاد معطلة وميتة لا قيمة لها، وما يقترحه دي سوتو كطريق للتنمية هو عملية إصلاح هيكلية قانونية وإدارية في المقام الأول، من خلال تمليك هؤلاء الفقراء لمساكنهم، ومن ثم إدخال هذه الأصول والنشاطات الاقتصادية ضمن إطار الاقتصاد الرسمي، بما يخلق لهم مجالا للنمو وريادة الأعمال والحصول على منافع النظام الرأسمالي، وبما يعود في المقابل على الدولة بالنفع أيضا.
مصر كانت إحدى خمس دول قام دي سوتو بدراستها كحالة على نظريته، حيث تكثر على امتداد مصر الأحياء العشوائية التي تم بناؤها خارج إطار القانون، ويقطن فيها ملايين البشر. ما اكتشفه دي سوتو في عام 1996 حول هذه العشوائيات في غاية الإثارة. اكتشف دي سوتو، أن 85% من الشعب المصري يعيش في منازل لا يتملك عليها صكوك ملكية هي بمثابة رأس مال ميت، وتم تقدير حجم رأس المال هذا في عام 1996 طبقا للدراسات بحوالي 240 مليار دولار في ذلك الوقت. أي أن كل تلك العشوائيات على امتداد البصر التي يراها من يزور القاهرة مثلا هي في واقع الأمر أصول لها قيمة كبيرة إذا ما تم إدخالها في المنظومة القانونية للدولة، وتوفيرها كرأس مال للقطاع الكبير من الشعب، وبما يعود على الدولة من فائدة بتوسع اقتصادها. يوضح دي سوتو في كتابه أن تلك الـ240 مليارا في عام 1996 كانت تمثل 6 أضعاف حجم المدخرات في البنوك المصرية في حينه، و16 ضعف حجم استثمارات القطاع الخاص في الاقتصاد المصري، و30 ضعف حجم قيمة الشركات المدرجة في البورصة المصرية، و55 ضعف حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة لمصر، و116 ضعف قيمة أكثر من 60 شركة قطاع عام مصرية تم خصخصتها بين عامي 1992 و1996. والخلاصة أنه في الوقت الذي سعت فيه مصر بعدة طرق لتنمية اقتصادها، فإن من شأن منظومة قوانين وإجراءات إدارية إصلاحية فقط تستهدف رأس المال الميت في الاقتصاد أن توفر أضعاف ما وفرته خطوات إصلاح اقتصادي أخرى.
بالطبع تختلف المملكة عن مثال مصر، ولكن لأي مدى يختلف ما يقارب من مليون شاب سعودي عاطل أو يزيدون عن فكرة رأس المال الميت في الاقتصاد. ولأي مدى تختلف الكثير من النشاطات الاقتصادية لدينا، والتي تقوم بها العمالة الأجنبية عن فكرة الاقتصاد غير الرسمي. النظر للمشكلة من منظور مغاير قد تنتج عنه حلول خارج الإطار التقليدي، وإن خالفت الاعتقادات السائدة والراسخة لسبل الحل، إلا أنها تظل مقترحات حل جديرة بالاهتمام، تماما كما هو مثال دي سوتو أعلاه، والذي أثبت حجم الفرصة الكبيرة التي فوتتها مصر على مدى 15 عاما.
الوصول لحلول مبتكرة لتحدياتنا ليس سهلا، خاصة في بيئة تفتقد للإبداع، ودفع الأفكار الجديدة للمناقشة، إنه أمر يتطلب أكثر من مجرد عصف ذهني brainstorming لمجموعة عقول حول المسألة، يتطلب قبولا من المسؤولين لفكرة طرح أفكار غير تقليدية من خارج الصندوق، والاهتمام بجدية لدراستها وتقييمها. هذا أمر لا تحله مقالة أو اثنتان لكاتب هنا أو هناك، مهما تنوعت الأطروحات في الصحافة. وعندما ننظر حولنا فإنه قلما نجحت دولة اعتمادا على كتيب الأفكار التقليدية، تلك الدول التي يحتذى بها صنعت تجربتها الفريدة بنفسها، ونحن إذ نحاول اقتباس تجارب غيرنا في الشرق أو الغرب نتناسى أن الأخذ من قبس الفكرة شيء وأن نشعل نارنا بأنفسنا وبأدواتنا شيء آخر.