التقيت بصديق قبل أسابيع قليلة بعد أن افترقنا لأكثر من عامين. كان اللقاء باردا على عكس ما توقعت. كلما انخرطنا في حديث معا غادر إلى هاتفه المحمول، الذي يناديه بضوئه قبل أن يعود إليّ بفتور.
عكر هاتفه أجواء اللقاء. لا أتذكر أنني أكملت معه موضوعا محددا. فحتى لو لم يناده هاتفه كان يذهب إليه. يحمله بين يديه؛ ليتأكد إذا جاءه تنبيه جديد أم لا عبر عشرات التطبيقات التي يمتلكها في جهازه وتسافر بينها أصابعه برشاقة.
حاولت أن أتظاهر بأنني سعيد بلقائه. لكنني في الحقيقة لم أكن كذلك. كنت منزعجا. لم ألتق بصديقي رغم أنني التقيته.
كان لقاءً يفتقر إلى مقومات اللقاء الإنساني الطبيعي. لقاء من طرف واحد. كان معي جسدا بينما روحه تتجول من تطبيق إلى آخر. من (تويتر)، إلى (الواتساب)، مرورا بـ (الإنستغرام).
أحزنني جدا ما آل إليه لقاؤنا. أحزنني جدا أن هذا اللقاء صار نسخة كربونية من لقاءات عديدة تدور في هذا العالم المثخن بالهواتف الذكية، التي أحالت حياتنا إلى حوارات صماء. أتألم عندما أشاهد شخصين في مطعم أومقهى أو جامعة إلى جوار بعضهما بينما هما بعيدان تماما عن بعضهما. يبتسم كل منهما لشخص آخر بعيد. يتحدث معه ويحتضنه ويربت على كتفه، في حين لا يعير جاره اهتماما ولو صغيرا. هذا البعيد لو صار قريبا سيصير غريبا.
لا أحد ينكر أن الهواتف الذكية سهلت حياتنا ولكن في نفس الوقت أفسدتها.
لقد أثبت الباحث في علم النفس في جامعة إسكس ببريطانيا، الدكتور أندرو برزيبلسكي، في دراسة حديثة، أن وجود الهواتف الذكية على الطاولة أثناء لقاء شخصين قد يفسد العلاقة نهائيا بينهما.
فما بالكم بوجود هذه الهواتف في كل مفاصل حياتنا ومناحيها. ترافقنا حتى في أسرتنا غير مكترثين بمشاعر من حولنا.
أصبحنا نفضل هذه المشاعر الافتراضية، ونغفل المشاعر الحقيقية.
ارتبطنا بهذه الأجهزة بطريقة مريبة. أصبحنا نتحسس جيوبنا وحقائبنا باستمرار. يعتبر بعض العلماء أن متلازمة الرنين الوهمية هي ظاهرة القرن الـ21. تشعر أن هاتفك يرن في جيبك ولكنه في الحقيقة لا يرن. تستيقظ على منبه هاتفك، الذي لم يرن بعد.
استفحال هذه الظاهرة يؤكد حقيقة إدماننا لهذه الأجهزة وانتقالنا من مرحلة الاستخدام والاستمتاع إلى الإدمان المرضي، الذي يحتاج إلى علاج، قبل أن يتفاقم ويتعاظم.
بات في مقدور الإنسان أن يعيش بلا غذاء ساعات طويلة، بيد أنه لا يستطيع أن ينصرف عن هاتفه دقيقة واحدة.
أجرت شركة أو تو للتأمين، دراسة حديثة، توصلت إلى أن 21 % من الشباب دون 24 عاما يستطيعون أن يصوموا 24 ساعة عن الطعام، لكن لا يستطيعون الصوم عن استخدام هواتفهم مهما كانت الأسباب. وأشارت الشركة في بحثها إلى أن الرقم في ارتفاع مضطرد في ظل ارتباط المستخدمين بأجهزتهم على نحو غير مسبوق.
إن هذه النتائج المروعة تؤكد أن العلاقات الإنسانية المباشرة في طريقها إلى التلف إذا لم نستيقظ ونقنن استعمالنا لها وطريقة التعاطي معها.
قبل شهور قليلة كنت في أحد صوالين الحلاقة وفوجئت بشاب يستخدم هاتفه الذكي بتبذير وهو يحلق شعره.
كلما امتلأت شاشته بالشعر، الذي يتساقط من رأسه مسحه، وتابع ما يقوم به في الجهاز. كان منظرا غريبا، لكنه يستحق التوقف والتأمل والدراسة.
من المحزن أن ترى يافعا يبدو مفوها ومثقفا وجميلا في العالم الافتراضي، مرتبكا مترددا في العالم الحقيقي؛ لأنه نسي أن يدرب لسانه كما درب أصابعه.
إنها ليست دعوة لمقاطعة الهواتف الذكية، لكن دعوة لتقنين استخدامها. إنها دعوة للعودة لأحبتنا قبل فوات الأوان.