الخادم أو الخادمة أمر هام اجتماعيا لكلا الطرفين، الخادم والمخدوم، فالخدم يحتاجون إلى هذه المهنة لأنها مصدر دخلهم، أما المخدوم فلا يستطيع إنجاز مهامه دون مساعدة الخادم، ومن هنا تأصل مفهوم التكافل الاجتماعي لتستقيم الحياة، وتاريخ الخدم قديم قدم التاريخ، إلا أن هناك خاصيتين حملهما التطور إلينا نكاد ننفرد بهما عن بقية شعوب الأرض، وهي استقدام الخدم أو استيرادهم، وتأخر سن الزواج لكلا الجنسين. وهاتان السمتان جديدتان على البنية الاجتماعية السعودية. وبطبيعة الحال يعد هذا خللا في البنية الاجتماعية، نتيجة الطفرة الحضارية السريعة، والتي أنتجت طبقة من طبقات المجتمع، تعد شريحة كبيرة وليست بالهيِّنة وصلت إلى التلامس مع طبقات التكنوقراط، كما أن الطبقة الوسطى الجديدة أصبحت نفسها تحتاج إلى خدم، وبالتالي أصبحت هناك أزمة خدم، أو ما يسمى بأزمة العمالة ثم أزمة الزواج.

بالأمس القريب كان المجتمع السعودي مجتمعا رعويا بطبيعة الحال، وكانت فيه طبقات متعددة تعمل على توفر اليد العاملة دون استقدام أو استيراد، ومن هنا كانت البنية الاجتماعية فيه متوازنة حسب دخل الفرد فيها ومكانته الاجتماعية، إلا أن الطفرة السريعة لها هنات، فقد عملت على خلل بنيوي مجتمعي، وذلك لتدفق تيار الهجرة بشكل عنيف وسريع من القرى إلى مختلف مدن المملكة، وارتفاع مستوى التعليم. وبذلك واجهنا محنة مزدوجة، تمثلت في نقص الأيدي العاملة اللازمة للاستمرار في إسهام هذا القطاع الهام في الاقتصاد القومي للمملكة، ونقص في طبقة الخدم والتي أصبحت معضلة كل بيت، وعلى عكس المتوقع فقد لعب التغيير الاجتماعي والثقافي على ارتفاع المستوى المادي للأفراد، مما أدى إلى اختفاء عدد من صور التعاون بين الأفراد، وظهور الأفراد أصحاب الثروات المنعزلين عن المجتمع. هذا بالإضافة إلى بعض الظواهر السلبية التي صاحبت هذا التطور الاجتماعي والثقافي ومنها: إحجام بعض الشباب عن الزواج، والذي تمثل في أبسط مظاهره في تأخير سن الزواج، والتباهي بالخدم من دول أجنبية، كما تسببت الطبقه الوسطى الجديدة فى ظهور بعض المظاهر الاجتماعية السلبية، منها أن كثيرين من أبناء هذه الطبقة من الشباب لا يفضلون المشاركة في الإنتاج بأيديهم، ودفعتهم لذلك بعض الأفكار المستمدة من البيئة القبلية: "والتي تنظر للعمل اليدوي على أنه عمل لا يليق بفتى الصحراء أو محارب الصحراء الحقيقي".. على أن أفكار هذه العائلات والخاصة بالبيئة القبلية هي التي دفعتها للعمل داخل مؤسسات الحكومة، وترك العمل في المهن الصغيرة.

أما تأخر سن الزواج فيرجع إلى عوامل كثيرة ومتعددة، كالإقبال على التعليم بين الشباب والتوسع في التعليم بين الفتيات، ثم دخول المرأة مجالات العمل الاجتماعي، إضافة لتغيير مفاهيم الهدف من الزواج لدى الشباب من الجنسين، كما كان ارتفاع المستوى الثقافي والتعليمي للفتاة أو الفتى وراء ارتفاع مستوى آمالهما وطموحاتهما المتعلقة بشريك حياتهما، وبالمكانة الاجتماعية التي يمكن أن تتحقق من ارتباطهما بالزواج، وربما كان هذا سببا وراء ارتفاع مستويات المهور وتكاليف الزواج. وكان اتباع هذه الطبقة لسبل المباهاة بالثراء حتى أصبح الزواج إحدى هذه الوسائل، فلم يعد حفل الزفاف وسيلة لإعلان القران، لكنه أصبح وسيلة للمباهاة الاقتصادية، وانتقال الأسرة إلى مكانة أعلى، وهذا ما دفع أبناء هذه الطبقة إلى محاولة محاكاة أنماط ثقافية مغايرة على المجتمع تثبت انتقالهم إلى تلك المكانة.

تعبير المهر عن المكانة الاجتماعية والقدرة الاقتصادية يعد انعكاساً لظروف الحياة الحديثة، هذه المحاولة في محاكاة البعض للآخرين قد أدت إلى انتكاس الوظيفة الفعلية للتغيير الاجتماعي والثقافي، فبدلاً من أن يحد هذا التغيير من بعض العادات والتقاليد، نلحظ ازدياد مظاهر البذخ والإسراف، بل واختفاء صور التعاون بين الأفراد في هذا المجتمع، ويرجع ذلك إلى: انتقال الأفراد فجائيا من المجتمعات القبلية إلى المدن وارتفاع المستوى المادي للأفراد وغياب الوعي بينهم. ومن ثم كان في إطار عمليات التحديث والتطوير- التي لازمت المجتمع السعودي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي - إدخال تلك العمليات من عناصر وقوى خارجية غريبة عن العقلية العربية والسعودية بوجه خاص، مهدت لاختراق عدد من الثقافات والفنون الوافدة على تلك البنية الصلبة التي تشكلت من مجموعة الأعراف والعادات القبلية التي ترسخت في عمق وجدان المجتمع السعودي. ومن ثم كان لا بد - في إطار عمليات التحديث في المجتمع السعودي - أن ينظر إليه في ضوء ما قد تأسست عليه الدولة ككل من المفاهيم الدينية، بجانب تلك النظرة المترسخة في وجدان المجتمع القبلي منذ ما قبل مرحلة التوحيد، على أنها خطر قد يعمل على تخلخل البنية الاجتماعية.

ولعل حادثة الطفلة "تالا"، والتي خيم بسببها الحزن على كل بيت سعودي، وقبلها حوادث عديدة، يعكس هذا التخلخل الذي يصعب علاجه، نتيجة لتكون البنية المجتمعية على هذا الأساس من حيث العوامل سالفة الذكر، والتي أصبحت نسيجا في تكوين الشخصية السعودية، حتى أصبح الريف نفسه يستقدم الخدم، فمنع الاستقدام يعد معضلة، واستمراره معضلة أخرى، مما يجعل المجتمع في مأزق، حلها هو حب الوطن بالاستغناء عن العمالة الأجنبية، والعمل الذاتي دون استعلاء على أي عمل يرحم هذه البقعة الطاهرة من تداخل الثقافات الغريبة، أما تأخر سن الزواج للجنسين كليهما، فتلك مشكلة حلها بيد المجتمع نفسه، وذلك بالتخلي عن تلك العادات المستحدثة والوافدة فقط للتباهي والارتقاء الطبقي، والتأمل فيما كان عليه أسلافنا من وعي وحميًّة وتعاون مع الآخرين. فهذه الدائرية في العلاقات الاجتماعية كارثة وجدانية للنسيج الاجتماعي بأكمله.