غرد أحد الكتاب تغريدة على التويتر، غير موفقة جداً، فكم من تغريدة قالت لصاحبها دعني، فلم يدعها، فلم تدعه هي بدورها، ولم تترك لنا مجالا لندعه نحن أيضاً. وهذه التغريدة هي التالية: "إن الوطنية ثقافة مكتسبة، وليست كما نقول تشرب مع حليب الأم. والبدوي في الصحراء لا يعرف الوطنية؛ لأن رزقه لا يرتبط بجغرافيا". أنا هنا لن أذكر صاحب التغريدة، حتى لا يصبح هو شخصه مجال النقاش، بدلا من موضوع التغريدة نفسها، فقائلهاـ دون أن يعلم ـ يعتدى بالقذف على شعور ووجدان فئة عزيزة من فئات وطننا العزيز وهم البدو، الأصل والذخر للوطن.

هنالك من يطرح رأيا، وهوعدم تناول بعض الأفكار الشاذة ومناقشتها، ليس فقط لتفاهتها، ولكن لعدم الترويج لها أيضاً، وهذا رأي حكيم. ولكن عندما تكون الفكرة الشاذة قد أحدثت ردود فعل غاضبة، من خلال تغريدات مضادة، أحدثت إساءات معاكسة، ووضع لها "هاشتاقات" يصبح طرحها ثانية ومناقشتها مناقشة علمية، لإثبات شذوذها نوع من صب الماء على الحريق، لا صب الزيت عليه. وبما أن صاحب التغريدة قد تفوهت أنامله بها، فهذا قد يدل على أنها متداولة بين بعض الناس كحقيقة، لا مجال للتشكيك بها. أي بأن عدم سماعنا لفكرة ما، لا يعني عدم وجودها وتداولها بين فئة أو فئات من الناس. ولذلك فتبيان شذوذها أقرب للواجب منه للترف الفكري، خاصة كونها تمس فئة كبيرة من الوطن، وعزيزة عليه وعلى المواطن نفسه.

في البداية، عندما نتحدث عن الحضر والبدو الآن، والعرب والأعراب قديماً، فنحن نتحدث عن جنس بشري واحد، وهو الجنس السامي العربي، أي لا نتحدث عن جنسين مختلفين، كل منهما يحمل صفات جسمانية ومواصفات أخلافية مختلقة عن الآخر. ولكن الفرق بينهما هو فرق على مستوى طرق وأساليب المعيشة لا غير. أي أن الجنس العربي السامي، إما يعيش في الحاضرة، فيطلق عليه حضري، أو عربي، وإما يعيش في البادية، ويطلق عليه مسمى بدوي أو قديماً أعرابي. وتعتبر البداوة سابقة على التحضر، في عملية التطور الحضاري للجنس العربي السامي والحافظة له من حيث النوع واللغة والقيم العليا. فالحضري العربي، سمي بحضري نسبة لجغرافيا تواجده، وهي الحاضرة وأسلوب معيشته المرتبطة بالحاضرة، والمشتقة من الحضور، أي المكوث، مثل الزراعة والصناعة والتجارة، وغيرها من مهن الحاضرة. والبدوي سمي بالبدوي نسبة لتواجده في البادية، وأسلوب معيشته فيها، المرتبطة بالبداوة، وهي الرعي والتنقل، وما يتفرع منها وعنها من مهن، تخدمها وتنميها وتحسن من نوعها. وفي بلاد العرب تكامل الاقتصاد، بين اقتصاد الحاضرة والبادية، فشكل اقتصادا واحدا، لا غنى لأي منهما عن الآخر، أي هما نوعان من الاقتصاد، يخدم كل منهما الآخر ويكمله، والذي نتج عنه في النهاية نمط اقتصاد واحد، يمكن أن نسميه الاقتصاد العربي. ونستطيع أن نقول ـ دون تحفظ ـ إن الاقتصاد الرعوي، للجنس العربي، سابق ومؤسس لاقتصاده الحضري، وشكل أساسه ودعامته التي رفدته لآلاف السنين.

وفي عودة للارتباط بالجغرافيا، ليس صحيحا أن البدوي غير مرتبط بالجغرافيا، فالجزيرة العربية برمتها جغرافيا له، ولو تنقل بها من مكان لآخر، ولم يرتبط بالجغرافيا، بمعناها الضيق، حيث لا حاجة له بذلك، لارتباطه بجغرافيتها بشكلها الأوسع والأرحب. والحضري هو المدان، بارتباطه بالحيز الجغرافي الضيق، الذي قد يكون على حساب الجغرافيا الأوسع والأشمل المحيط به. هذا بشكل عام، وبشكل أدق، من المعروف أن كل قبيلة، تتحرك ضمن نطاق جغرافي معروف ومحدد، يسمى باسمها، مثل مضارب بني فلان أو ديار بني علان، لا يمكن لأي قبيلة أخرى، الدخول إليها إلا بإذنها والتفاهم معها، وإلا اشتعلت حرب ضروس بينهما، تنتهي بطرد أحدهما الآخر من المكان المتنازع عليه.

ومن الناحية السياسية، فمن المعروف أن القبيلة هي سابقة على وجود الدولة في التاريخ العربي، والبشري بشكل عام، بمعنى أن القبيلة كانت تؤدي دور الدولة، قبل دخول مصطلح الدولة قاموس الإنسان العربي السياسي. القبيلة وبشكل عام، هي كيان تنظيمي، لتحالف بين رعاة، للذود عن حياتهم وتأمين معيشتهم وحفظ مصالحهم، ومنحهم هوية جمعية لهم، وتدار بواسطة هرمية سياسية متفق عليها، وتنظم حياتهم أعراف (قانون ونظام) يتماشى ومصالح أفرادها. أي أن القبيلة هي في الأساس، شكل أولي وبدائي للدولة، فرضته الظروف الأولية والبدائية لجغرافيا الجزيرة العربية، الفقيرة في مواردها الاقتصادية، التي لا تؤهل لقيام دولة، بشكلها الأوسع والمكلف. فالدول، كما نعرفها الآن، نشأت أول ما نشأت، حول الشعاب والأنهار، والطرق التجارية، حيث وجود وفرة اقتصادية، يؤهلها مادياً لدعم الدولة بمؤسساتها المعقدة والمكلفة، وهذا غير متاح في بوادي الجزيرة العربية، وحتى حواضرها.

عندما قامت دول في الجزيرة العربية، لم تعمر طويلاً، بسبب الشح في الموارد الاقتصادية الداعمة لها، وحتى عندما قامت الدولة العربية الإسلامية فيها، فلم تستقر فيها أكثر من أربعة عقود، لم تصل حتى لنصف قرن، ثم انتقلت بمركزها منها إلى الشام ثم العراق ومصر والأندلس، حيث وجود اقتصاد مستقر ومتقدم، يؤهل رعايتها والحفاظ على مؤسساتها، تاركةً إنسان الجزيرة العربية، لدولته البدائية، والتي هي القبيلة، مع اعتماد آلة الدولة العربية الإسلامية العسكرية عليه في الذود والدفاع عنها والتمدد في توسعاتها، كفرسان يمتطون صهوات خيولهم العربية الأصيلة، الذين لا يمكن مجاراتهم في فنون الحرب وخوض غمارها. وكذلك استجلبت الدولة العربية، قبائل من الجزيرة العربية، لاستيطان المناطق المفتوحة الجديدة، وتعريبها بإنسان الجزيرة العربي. وهذا دليل آخر على عدم قدرة استغناء العربي البدوي والعربي الحضري عن بعض، حتى في حالة انتقال مركز الدولة العربية خارج الجزيرة العربية، فهي ظلت خزان العروبة المتدفق في الأول والأخير والذائدة والمدافعة عنها، حتى ولو أتى ذلك على حساب مصالحها السياسية والاقتصادية المباشرة.

إذاً، فالقبيلة العربية هي كيان سياسي تنظيمي عقلاني، وجد لحفظ حياة أفراده وتنظيم معيشتهم ورعاية مصالحهم، ومنحهم الهوية الجمعية، وسط ظروف جغرافية فقيرة ومناخية صحراوية قاسية جداً، غير قابلة للعيش فيها إلا من خلال تكتلات بشرية، صغيرة أو متوسطة، متحركة أو شبه مستقرة. إذاً فالقبيلة هي قبل أي شيء، استجابةً تنظيمية معيشية لمعطى جغرافي، قبل أن تكون معطى سياسيا صرفا.

والقبيلة هي حالة تنظيمية سابقة للدولة، فعندما تحل الدولة مكانها، فإنها توفر لأفرادها ما كان يوفر لهم تنظيمهم القبلي، السابق عليها، من حفظ لحياتهم وكرامتهم وتوفير أسباب المعيشة لهم، ورعاية مصالحهم ومنحهم الهوية الجمعية التي تليق بتخليهم عن هويتهم الجمعية القبلية. وعندما توفر الدولة ما كانت توفره القبيلة لأفرادها، وأكثر، فإنهم وبالتدريج يتخلون عن انتمائهم القبلي لصالح انتمائهم للدولة، والتي هي بالنسبة لهم قبيلة أكبر وأرحب. وستنتقل حميتهم وتعصبهم القبلي، من صالح قبيلتهم لصالح دولتهم، أي وطنهم الأوسع والأشمل، حيث الانتماء للتنظيم الجماعي هو جزء لا يتجزأ من شعورهم الوجداني، منذ آلاف السنين، أي سابق على وجود الدولة وحتى على مفهوم الوطنية نفسه.