لقد اعتدنا في عالمنا الإسلامي عموما والعربي تحديدا للأسف على التفاعل العاطفي مع الأحداث من حولنا، حتى غلبت هذه العاطفة الجياشة على كثير من مواقفنا وآليات خطابنا ومناهج تواصلنا مع الآخر، لتكون النتيجة استمرار تلك الحالات التي أثارت عاطفتنا، بل وفي أحيان معينة تفاقمها، وكذك استمرار النظرة السلبية عن المسلمين وقضاياهم. هذه النتائج السلبية لتحركاتنا العاطفية لا بد أن تثير في أنفسنا سؤالا عما إذا كان العالم يسمع منا ما نريد أن نبلغه إياه فعلا أم إن ما نقوله يصله بطريقة يفهمها بخلاف ما نريد أن نبلغه إياه، وبالتالي نكون من حيث أردنا أن نخدم قضايانا أسأنا لها.

التواصل مع الآخر بشأن قضايانا لا بد أن يكون من خلال اللغة التي يفهمها لا من خلال اللغة التي تفرغ شحنات الغضب التي لدينا، فمهما كان خطابنا مشحونا بالعاطفة ومفعما بالبلاغة ومزينا بالمحسنات اللغوية فإنه في الغالب لن يصل إلى الآخر كما نريد له أن يصل، لأن خطاب العاطفة لا يمكن أن ينبني عليه موقف سياسي أو ينتج عنه مركز قانوني، ما لم يكن ذلك الخطاب في ذاته مدروسا ومدمجا في السياق الاستراتيجي للتواصل مع الآخر على مختلف المستويات.

هنالك الكثير من النماذج التي يمكن أن نطرحها في هذا الباب ومنها ما يتعلق على سبيل المثال لا الحصر، بالإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، والتي سنخصص لها مقالا خلال الأسابيع القادمة إن شاء الله، وأيضا ما يتعلق بقضايا الأقليات الإسلامية في بعض الدول مثل بورما.

فقضية بورما قضية قديمة متجددة، ليست وليدة اليوم وإنما هي امتداد لمراحل من العراك العنصري والطائفي بين طوائف دينية وعرقية لم تستطع رغم طول الزمن أن تتعايش مع بعضها البعض، حتى وصل بهم الحال إلى ما نشاهده اليوم من دماء تسيل بلا حساب واعتداء على الأعراض والأرواح إلى المدى الذي حرك الأنفس والأمم والشعوب والمنظمات الأهلية والحكومية.

بورما ليست القضية الوحيدة في العالم ولن تكون _في نظري _ الأخيرة في سلسلة الجرائم ضد الإنسانية من إبادة جماعية وتطهير عرقي، ولن تكون الأخيرة بين أحداث مليئة بالعنصرية والكراهية وما إلى ذلك من أفعال مجرَّمة على مستوى العالم، ولكن الجرائم القائمة في بورما قد تكون لها طبيعة مزدوجة نظرا لكونها جرائم مؤسسة على العنصرية العرقية والطائفية الدينية في ذات الوقت، وهي أيضا نوع من الاضطهاد الشعبي أو الأهلي علاوة على كونها اضطهادا حكوميا لأبناء جالية من المفترض أنها تقيم على أرض تلك الحكومة بشكل قانوني.

هذه العناصر التي ذكرت تدفع أي قانوني للتحرك مع هذه القضية ومحاولة تفعيلها بالشكل الصحيح، ونقلها نقلة نوعية من التفاعل العاطفي والبكاء والحزن والعويل على ما فات وما يحدث إلى التفاعل العقلاني والتحرك القانوني من خلال الآليات والصيغ القانونية المتاحة والاستفادة من الموقف لتفعيل قضايانا بالشكل الصحيح.

ولكن من يشاهد الكثير من تحركاتنا بشأن هذه القضية تحديدا، يجد أنها في كثير من الأحيان تصل للطرف الآخر بالمفهوم الذي نحاول أن نتلافاه، فهي تصله مليئة بنبرة الضعف والاستجداء في الوقت الذي تنتفخ فيه الأوداج بقول عمر أبو ريشة "رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم – قد لامست أسماعهم ولكنها لم تلامس نخوة المعتصم"، ونجد تحركاتنا عموما تحركات عفوية تنحصر في مجال الإغاثة العاجلة والتجاوب على المستوى الفردي دون محاولات جادة في تنسيق الجهود ووضع منهج استراتيجي للقضية وآليات التعامل معها، وهي أمور مهمة ولكنها بهذه الصيغ تبقى محاولات مخلصة لكنها ليست بالضرورة فاعلة على الأمد الطويل.

حاول مؤتمر نصرة المظلومين في بورما الذي رعته الهيئة الإسلامية العالمية للمحامين تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي، أن يضع أنموذجا حيا لتحويل الخطاب العاطفي المجرد، إلى حراك قانوني مدروس وعاجل لعله يكون مبادرة صغيرة في أولى خطوات الهيئة نحو هذا المسار، ولكنها خطوة أولى نحو مسيرة حافلة بالإنجاز بمشيئة الله.

في هذا المؤتمر تم تنسيق الجهود المتباينة على الأصعدة المختلفة ووضعها في بوتقة واحدة لتنتج لنا حراكا منسقا نحو هدف واحد، آملين أن يكون الغرض منه أن يسمع العالم صوت الحق والعدل بحق هذه القضية العادلة، وفقا للآليات الصحيحة والمسارات القانونية والدبلوماسية المتاحة، بما في ذلك الاستفادة من منظمة التعاون الإسلامي باعتبارها منظمة حكومية ذات طابع دولي يتيح لنا أن نوصل صوتنا إلى المنصات الدولية بالمساق الصحيح، وبما في ذلك وضع آليات جمع المعلومات وتأهيلها قانونيا، بحيث تكون مستندات ووثائق قانونية يمكن الرجوع إليها والاستناد عليها عند التحرك رسميا بشأن القضية.

إن عدم تجاوب العالم مع بعض قضايانا ليس بالضرورة لأن العالم يريد ظلمنا، ولكننا نستشهد بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: "إنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم ألحن بحجته، وإنما أنا بشر، فمن قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار".

تغريدة: على ما بينهما من تضاد تام إلا أن الليل والنهار يعلمان يقينا أن السماء أوسع من ألا تسعهما معا! وطننا كذلك أوسع من ألا يسع تبايناتنا.