حين يخبو بريق شيء فلا تسمع منه رنين الذهب، ولا ترقب فيه التماعات البروق، ولا تشجيك أجراسه أو تؤذيك مناحاته فإن محاولة التعاطي معه تندرج ضمن مواته.
إننا نعيش الحياة ونمارس طقوسها الاعتيادية كما لو كانت حافظة حضور نتعهدها كل صباح احتراساً من ساطور مراقب الدوام، وفي أفضل الأحوال فإن الآلام الشاقة تدفعنا للبحث عن مسكنات آنية. هل أتمادى في التزحلق على جليد حسن الظن وأبشر بنفس النمط من الثورات العظيمة التي تنتج حاجتنا لتحاميل تتحايل على آلامنا وتتعايش وتعتاش من استدامتها؟ ماذا لدى الحياة إذ فقدت خاصية الروح، جاذبية الأشياء، بريق اللهب؟
تحاول الطبيعة إقناعنا بحتمية التغيُر والتغيير. يختفي القمر فتعتم السماء وتنعدم الرؤية.. لكنه يعاود الولادة مرة كل شهر متنازلاً عن غطرسة الكمال.. إنه يبدأ صغيراً ثم ينمو وفقاً لقانون التدرج، وفي منتصف الشهر يصبح زاهياً ساطع الضوء باهي الطلعة، وفجأة يختار الانكفاء على الذات في معركة متواصلة ضد الرتابة. بيد أن أحد أصدقائي صار ينادي زوجته بالأخ بعد مضي 3 عقود على زواجهما، دون طريقة تتجاوز مفردات وطبائع ووصفات العلاقة الاعتيادية، شكواه من الملل لا تلغي حقها في طلب التعويض عن سنوات القهر منذ آلت إليها مهام العناية بمفاصله المتوعكة.
سوف أسأل إن كانت الحياة ممكنة دون بريق يبعث الأشواق الكامنة في طوايا البشر.. وهل ما نسميه الكاريزما ضرورة قصوى لاعتبار ما يجري حولنا جزءاً من معنى الحياة؟ إذ إنها بالنسبة لمجتمعاتنا النامية لا تفتقد الحافز على إبداع مفرداتها قدر تخمتها بالحرمان، بوصفه بطارية العوالم المنسية لتحريك الطاقات الكامنة وحفز الشعوب على المقاومة.
تقودنا مصادفات الحياة إلى مناسبات سارة لكنها تأتي في غير زمانها، تجيء متأخرة، وحينئذ نكون قد فقدنا نعمة الإبصار ونقمة الاشتهاء!! وقطعاً فإن هذا هو ما يصيبنا بالتحسس من أي أنباء تحمل طابع البشرى، ذلك أن معظم الخدع بدأت على صورة فرح واهم.
كثيرون لم يعودوا يعبؤون بالمتغيرات ولا يكترثون بمستجدات الحياة.. إننا نزدري أطباق الحلوى ما دامت تفسد مألوفاتنا مع المرارة، وإذا قيل مثلاً إن الثورة باتت فاكهة الموسم يلزمنا الكثير من الارتياب، خاصة أن تربة القهر تحتفظ بخصائصها القديمة ويستحيل اجتناء عناقيد الكرم من شجرة الحنظل.
ثمة ما يستحق القرف من حالة الاضطراب الحاد الذي يعتور الجهاز الهضمي لحكومات تستمرئ التسول باسم مواطنيها، فيما تتقاعس عن استعادة الأموال المنهوبة من خزينة الدولة.
تبدو الصورة قاتمة، وسبل الإفلات من كوابيس القهر غير متاحة، لكننا نستطيع تخصيب معاناة الإنسان وتحليل فصائل أمراضه سعيا نحو جينات جديدة، يمكنها المساعدة على مواجهة المعضلات الكبرى، وفي طليعتها معضلة الإرهاب.
هل صحيح أن التعبئة الخاطئة والانقياد الأعمى لصوت التطرف أديا – وحدهما – لاتساع دائرة الإرهاب؟ وهل الانحراف برسالة الإسلام وجهل مضامينه المكرسة من أجل تعمير الأرض وتمجيد الحرية هو الذي فاقم ظواهر التكفير ودعوات الاستباحة؟ أم إن عاملاً آخر يفرز هذه التروس الحادة ويتوارى خلف صواعقها العنيفة..؟
لا شك أن واقع الحياة في بلداننا صعب ومعقد وهو يجعل علاقتنا بها اضطرارية.
نحن لا نرتويها لحظة ينتاب العطش أشواقنا، ولا نتغذى قيمها ووظائفها ومصوغاتها عند توقف عربة سير تحتاجنا لدفعها إلى الأمام. ومتى تحركت مكنتها نجدها تعود إلى الوراء وتدهس بقسوة كل المتحررين من العصبوية القبلية والمذهبية.. إننا نبحث عن المعنى، وماذا تكون الحياة دون تذوق أو نكهة، ويوم لا يحرك شعورنا بها عشق ورغبة وجمال شأنها إذ نهرب من جحيم مطالبها ويستقبلنا في المنبر داعية ليس في موعظته غير جحيم الأخرى.. هنالك فقط يأتي دور الحزام الناسف، ويصبح الطريق إلى التطرف سالكاً.. فهل حان الوقت لمراجعة شاملة تخفف من وطأة اليأس الذي يستوطن دخائل الإنسان ويحطم كيانه المعنوي وينهك قدراته الخلاقة؟!
متى ترفع الحكومات تحفظاتها لتمارس دورها في مقارعة قوى التطرف..؟ ذلك سؤال اليوم وسؤال الأمس وقد يكون ذاته سؤال الغد.