متى تم استدعاء كاتب أو إيقافه عن الكتابة لأنه كتب بشكل علمي وموثق عن وزير أو مسؤول؟ وما القصص في واقعنا الصحفي التي تشير إلى تأزم فعلي بين الناقد والمنقود؟ مثل هذين السؤالين يستحثان تعليقات ترى فيها نوعا من افتعال المثالية ومحاولة تلميع واقعنا الصحفي والإعلامي والرسمي أيضا، لكن السؤال الذي تجب مواجهته، إلى أي درجة لا يزال واقعنا الصحفي مؤثرا وقادرا على خلق الأبطال والمناضلين؟

في الواقع لم يعد لدينا الآن أي شيء من ذلك، فمع وجود هذه المناخات المفتوحة في "تويتر" و"فيس بوك" وغيرهما من الوسائط الجديدة أصبح للبطولة مكان آخر أكثر جذبا وتأثيرا، بل باتت الصحف والكتاب يلجؤون لتسويق مقالاتهم عبر "تويتر"، بمعنى أنه أصبح المنبر الذي ينتظر أن يحمل الصحيفة والكاتب إلى عدد أكبر من المتلقين والمتابعين. إذن فلا مراهنة على السقف لأنه أصبح يدار من خلال الناس، ولا مراهنة على النص ولا على الأسلوب لأن المعنى أصبح هو المحور الأبرز لكل رأي، وفي "تويتر" مثلا حالة خاصة جدا يتساوى فيها الجميع، فلا المؤهل العلمي ولا المنصب الوظيفي يمنحك حروفا أكثر لتغريدتك، فالجميع سواسية لا تمايز بينهم.

هذه الظروف الجديدة تعني مناخا جديدا للتعبير والنقد وتوضيح المواقف والآراء، مما يعني أيضا أن يفترض أن تؤدي إلى ثقافة جديدة وإلى واقع جديد في عملية النقد وإبداء الرأي، لكن هذا التحول لا يزال متراجعا لدى كثير ممن يستخدمون هذه التقنية الجديدة، بينما في الواقع يتعاملون معها بذات الذهنية التي تكتب أكثر من خمسمئة كلمة في المقالة. وتؤمن بمقولة الكاتب البطل والكاتب الجريء الذي لا يتوقف قلمه عن النقد والمواجهة. وهذا جزء من أزمة المثقف الذي يمكن القول إنه انتهى تماما ولم يعد يمثل أية قيمة تأثيرية نوعية، فالمثقف ظل مرتبطا بالمنبر الذي يطل من خلاله على الناس، أو الوسيلة سواء كانت الكتابة أو الخطابة، أما وقد اتحدت الوسيلة وتعددت المنابر فلم تعد ثمة من خاصية يتميز بها الكاتب أو المثقف عن غيره من الناس، بل إن التقسيم الذي كان سائدا في توزيع الناس على أفراد يقومون بعملية الإرسال وهم النخبة، وأفراد يقومون بعملية الاستقبال وهم الجمهور، قد انهار تماما فتحول الجميع إلى مرسلين وفي ذات الوقت تحول الجميع أيضا إلى مستقبلين.

الآن لم تعد قوة ما تكتب معيارا لجودته ولا لتأثيره بل أصبحت القيمة العلمية والمعنوية هي التي تؤثر في نوعية وحجم استقبال الناس له، وهذا ما لم يفطن له الكثيرون ممن ما زالوا يكتبون بحماسة الناقد القديم.

الآن بإمكانك أن تتناول وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والقضاء والإعلام والصحة والزراعة والمرور ونظام ساهر والمواصلات تحت عناوين وعبارات مثل: الوزارة التي لم تقدم شيئا أو بعناوين مثل: الميزانية التي ذهبت أدراج الرياح، أو هيئة الفساد التي تحتاج إلى هيئة.. وغير ذلك من التناولات التي لن تسفر في النهاية إلا عن صوت ناقد يشابه آلاف الأصوات من المغردين عبر "تويتر" والكتاب عبر مختلف صفحات ومواقع الإنترنت. إذن بعد أن تحول الجميع إلى شركاء في إنتاج الرأي وشركاء في استهلاكه يصبح من المهم البحث عن الشريك المتميز والقادر على إنتاج أفكار ومواقف نوعية ومؤثرة.

التحديات التي يواجهها الواقع التنموي السعودي تفرض على كل مسؤول أن يكون أكثر إصغاء وانتباها لكل ما يقال ويتم تداوله حول أداء الجهة التي يتولى مسؤوليتها، إنما لا يجب أن يتوقف ذلك عند القنوات التقليدية التي ظل المسؤول شغوفا بمتابعتها كالصحف والمقالات وآراء الكتاب والبرامج التلفزيونية الحوارية، بل يجب أن يدرك أن المعادلة القديمة المتمثلة في وجود نخبة فقط هي التي تتولى التقييم والتنظير لم تعد صائبة، ولا بد من إعادة النظر في تلك الرؤية، فثمة لاعبون جدد باتوا يمثلون مراكز إرسال مهمة ومؤثرة، هؤلاء ليسوا نخبة ولكنهم الجمهور الذي خرج من دائرة الصمت إلى دائرة الكلام، ومن دائرة الاستماع إلى دائرة المشاركة، قد لا تقدم هذه الجماهير الجديدة رؤية أو موقفا مؤثرا لكنها على الأقل تقدم انطباعا عن أداء هذه الوزارة أو تلك.

إن واقعا وطنيا جديدا يحتاج إلى وعي جديد، لكن تخيل ذاتك كوزير يقرأ في إحدى الصحف مقالا عن وزارته بعنوان: الوزارة التي لم تفعل شيئا. في الواقع لا يمكن أن تطالبه بشيء أمام عنوان عريض وعامي كهذا.