تعتمد الدول بشكل أساسي على الإحصاء لرسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، فهي تحتاج إلى بيانات عن نتائج أعمالها وأنشطتها، وذلك لتحليلها وتفسيرها للمساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة، كما أن انتشار التخطيط كأسلوب لرسم سياسات الدول أدى إلى المزيد من الحاجة إلى استخدام الأساليب الإحصائية لوضع خطط التنمية ومتابعة تنفيذها والتأكد من عدالة نتائجها.

وفي المملكة تقوم الجهات الحكومية بإعداد إحصائيات سنوية تتضمن أهم إنجازاتها وأنشطتها في صورة كمية، كما أن خطة التنمية تتضمن أيضاً بيانات إحصائية تستخدم في استخراج بعض المؤشرات مثل معدلات البطالة ومعدلات الوفيات ومعدلات الرسوب والتسرب من التعليم العام ومعدلات الزواج والطلاق، وغيرها من المؤشرات الأخرى التي تتعلق بالتجارة والاقتصاد بشكل عام.

والمتتبع للتقارير الإحصائية لبعض الجهات الحكومية، قد يلحظ شيئاً من التضارب والتفاوت في بعض المؤشرات أو البيانات التي تعتمدها هذه التقارير، أو يتراءى للمطلع أنها تتناقض مع الواقع الفعلي لهذه الجهات، كما يلاحظ أيضاً على هذه التقارير أنها تركز على الجانب الكمي على حساب الجودة والنوعية عند استعراض منجزات الجهة الحكومية!

هناك أسباب عديدة لوجود التفاوت والتضارب في البيانات والمؤشرات الإحصائية منها ما يتعلق بعلم الإحصاء نفسه، ومنها ما يتعلق بالممارسات الخاطئة عند استخدام الأساليب الإحصائية.

فعلم الإحصاء يعتبر من العلوم الإنسانية والذي يعتمد على الفرضيات في عمليات القياس الكمي، لذا نجد اختلافا في تعريف المجتمع أو المؤشر المراد احتسابه وقياسه، لذا نجد تباينا واختلافا من جهة إلى أخرى حسب الفرضيات والشروط الموضوعة وكذلك أساليب القياس.

أما بالنسبة للممارسات الخاطئة لاستخدام الأساليب الإحصائية، فهي تتمثل في قيام بعض الجهات الحكومية بعملية الإحصاء (الجزافي) أي عن طريق التخمين والتقدير الشخصي، وذلك لعدة أسباب منها: عدم وجود كوادر مؤهلة ومتخصصة أو عدم وجود تعاون مع الجهات الأخرى ذات العلاقة مثل عدم إرسال البيانات اللازمة أو عدم وجود برامج حاسوبية مساعدة.

قد تكون الأسباب أو الإشكاليات السابقة منطقية ومبررة ويمكن التغلب عليها ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في التلاعب بالإحصائيات الرسمية من قبل بعض الجهات الحكومية من خلال تضخيم منجزاتها وتقديم تقارير مضللة عن طريق استخدام علم الإحصاء في ظل ضعف البنية المعلوماتية وتعدد الجهات المسؤولة عن ذلك. هذا بالإضافة إلى عدم ربط هذه الإحصائيات أو المؤشرات بخطط التنمية، عند إعداد تقارير متابعة الخطة، حيث إن هذه التقارير تكاد تخلو تماماً من أي ذكر أو إشارة إلى المؤشرات التي تضمنتها خطة التنمية، ناهيك عن قلة وجود هذه المؤشرات في الأساس، وبالتالي انعدام المساءلة، فضلاً على أن الجهات الرقابية تأخذ البيانات الإحصائية بعلاتها دون تدقيق لمدى عدالتها أو القيام بعمليات المقارنة والتحليل.

لذا فليس من المستغرب أن نرى سباقا محموما بين بعض الجهات الحكومية في تضخيم منجزاتها بالأساليب الكمية، واستغلالها في الادعاء في نجاح برامجها وسياساتها، متجاهلةً بذلك الجودة والنوعية، لأن لا أحد يسأل عنها. وليس هذا فحسب، بل إن بعض الجهات تمادت بالقول إن إحصائياتها ومؤشراتها تتماشى مع المعدلات العالمية، وبالرجوع إلى المنظمات الدولية التي تصدر هذه المعدلات نجد العكس تماماً.

لعل من المناسب هنا، طرح بعض الأساليب التي تنتهجها بعض الجهات الحكومية عند إعدادها للإحصائيات السنوية لمنجزاتها وأنشطتها، بهدف توضيح عمليات التضليل والتلاعب في التقارير الإحصائية، وذلك على النحو التالي:

- تغيير سنة الأساس عند المقارنة بحيث تخدم نتائج الجهة أما بالزيادة أو النقص أو إلغاء المقارنة إذا كانت النتائج في غير صالحها، والاكتفاء بالرسوم البيانية التوضيحية لسنة واحدة.

- إخفاء نوعية البيانات ودلالاتها وعرضها على هيئة أرقام كمية، أو القيام بالاختيار الانتقائي لأساليب القياس الإحصائي الذي يخدم مصلحتها فقط وخاصةً في ظل تعدد الجهات المسؤولة عن الإحصاء.

- العمل على زيادة الأرقام الكمية بشكل جزافي بسبب ضغوط الإدارة لرفع نسبة الأرقام بأي شكل من الأشكال.

- قد تعمد بعض الجهات الحكومية والتي يتعلق نشاطها بالكشف أو الضبطية بالقول على سبيل المثال: " إن سبب الزيادة في إحصائية البند (000) هو انتهاج الإدارة لأساليب وسياسات وبرامج حديثة أدت إلى هذه الزيادة في حالات الكشف والضبطية"، وفي حالة النقص تقول: "نظراً لتكثيف جهود الإدارة في هذا المجال، أدت إلى وجود انخفاض في حالات البند (000)"!.

- تقوم بعض الجهات بإهمال الوزن النسبي أو الأهمية النسبية لبعض البنود، بحيث يتم تجاهل الخصائص المميزة لكل بند وإظهارها بشكل إجمالي حتى لا يؤثر على أدائها، وبمعنى آخر أنه يتم استغلال الزيادة في بند معين، لتغطية النقص في البند الآخر على سبيل المثال بحيث لا يتأثر الإجمالي.

بناءً على ما سبق، يتضح وجود ضعف في فاعلية الأساليب الإحصائية التي من المفترض استخدامها لقياس إنجازات بعض الجهات الحكومية، وبالتالي عدم تسليط الضوء على نقاط الضعف التي تعترض مسيرة التطوير والتحديث. وللمعلومية فإن هناك جهات رسمية في المملكة تقوم برصد ومتابعة هذه الإحصائيات وتقارنها بالمؤشرات الدولية، باعتبارها أداة حيادية يمكن أن يستند إليها أصحاب القرار في معرفة مجالات الإصلاح والتطوير التي ينبغي التركيز عليها، كما تقوم بكتابة تقارير عنها يتم الرفع بها إلى السلطة التشريعية، لذا فإن عمليات التلاعب والتضليل باتت مكشوفة للعيان، وما ينقصنا هنا المراجعة والمساءلة، والعمل على تطوير نظام فعّال للمعلومات، وذلك من خلال توفير معلومات حديثة وشاملة ومتاحة لكافة المستفيدين، من خلال تطوير وتحسين مؤشرات الأداء وربطها بخطط التنمية، وإصدارها بصورة دورية تخدم كلاً من المواطنين والجهات الحكومية ومتخذي القرار.