لا أدري إلى متى سنظل كأمة نتجاهل الدلائل الإبداعية التي يقدمها لنا إبداع الخالق في الكون وتكوينه، كأنموذج على حكمة وجود الاختلاف وضرورته المنطقية، ونجهل تبعاً لذلك التجاهل قيمة الدروس التطبيقية التي تحققها تلك الدلائل بوجودها الفعلي محسوسةً وملموسةً. فعبقرية الخلق قائمة أساساً على فلسفة الثنائيات المختلفة وليس الفردية، والمزاوجة لا التفريق والتناقض، (والاختلاف) لا الخلاف. فالفردية والمتناقضات والخلافات على عمومها لا يمكن لها أن تشكل أو تكوّن ناتجاً منسجماً ومتجانساً يحمل قيمةً بديعةً وإبداعية. وفلسفة الخلق العبقرية حين نتأملها متجسدة في (الذكر والأنثى، الأسود والأبيض، الليل والنهار، الشمس والقمر، الأرض والسماء، الشمس والقمر، الحار والبارد، الماء والهواء، وغيرها من الثنائيات الملهمة). وتشكل التعددية قيمة جمعية لا نهائية للوجود بكل تنوعه الكوني، تؤكد على وجود مدرسة عظيمة وهائلة - لا يراها الكثير - تخاطب ضمائرنا، وتحرضنا على (وجوب) فهم الاختلاف وطبيعته ومعناه ورؤيته من منظور (التكامل)، لأن ذلك في الواقع هو مربط الفرس (بل إنه الفرس والمربط والمرعى). وبتحقيق ذلك نضمن حضور عنصر مهم لفهم معنى التعايش، وضمان استمراريته على وتيرة متصاعدة لصالح الإنسان والإنسانية، لأننا في النهاية ننظر إلى نفس اللوحة ومشهدها، غير أن لكلٍ منا زاوية رؤيته وخبراته وتجاربه وطريقته في قراءتها وما تعكسه من مشاعر شخصية.
ويُعتبر الاختلاف أقوى وأهم دوافع عملية التفكير والبحث عن الضوء والاستنارة لترتيب الفوضى. وفي غيابه تتوقف عجلات عملية التفكير، ويتلاشى التطور الإيجابي المنطقي للمستقبل تماماً، بل ويموت ميتةً شنيعة. وتترنح حالة السلم الفطرية عند المخلوق الذكي (الإنسان). نتيجة وقوعه في مأزق الخلط بين مفهومي (الخلاف والاختلاف)، وهما المصطلحان الأكثر تنافراً بين كل المصطلحات اللغوية والفكرية من حيث المعنى والأهداف والقيمة. فعلى مر التاريخ الإنساني - ماضيه وحاضره- تسبب غياب الوعي الجيد لمفهوم الاختلاف في تطور النزاعات الصغيرة إلى حروب دموية طاحنة، سحقت بغوغائيتها عبقرية الأخلاق والمبادئ والمُثل الكريمة العليا، وأساءت إلى ذكاء الإنسان وآدميته. وصادرت الفطرة البيضاء التي خُلق عليها، لينحدر في ترتيب سُلم الخلق إلى مرتبة أقل من مرتبة الحيوانات نفسها.
لقد أدركت العقلية المستنيرة ضرورة وأهمية البحث عن آلية ما، يمكن على ضوئها تحويل الشعور العدواني المفاجئ الأول (نقطة الضعف)، الذي ينعكس عن اللفظ أو الموقف أو الحالة للوهلة الأولى. وهو قطعاً شعور مخادع وغادر، لأنه يستغل تلك اللحظة الأولى ويضغط باتجاهها دائماً وبقسوة. وحاجة الإنسانية إلى بلورة تلك الآلية المُفترضة، التي تنظم وتدير إرهاصات نقطة الاختلاف وما يترتب عليها تالياً. وقد نجحت إلى حد كبير في تقديم بعض الأطروحات الفكرية، وبدء تطبيقها والتأصيل لها عن طريق بثها كثقافة وسط المجتمعات الإنسانية، في محاولة واعية لتضييق مساحة الخطأ، وكبح همجية النظرة المختلة لمعنى الاختلاف، وردم الهوة السحيقة بين الأطراف المتنازعة، الناجمة عن النظرة التقليدية للاختلاف كمفهوم وكمصطلح لا ينجح الكثير في تناوله بوعي، لأن الاستمرار في استنزاف قوانا وأخلاقيتنا لصالح اللاوعي سيزيد من كآبة حياتنا على مختلف الأصعدة، وسيؤخر مسيرة التقدم والحرية وكل المفاهيم الخلاقة.
وحتى نخلق توازناً فكرياً حقيقياً، ونؤسس لثقافة الاختلاف الواعي، علينا إدراك أننا شركاء في كل شيء من حولنا، وأن أهميتي ووجودي مرتبطان أساساً بأهميتك ووجودك، والعكس بالعكس، وألا ننكر امتلاك كل طرف لجزء مهم من شكل ومضمون اللوحة التي ننظر إليها جميعاً. وغياب أي جزء مهما صغُر حجمه أو قلت قيمته أو تعقد فهمه، هو مكونٌ رئيس من الشكل الكلي للحقيقة التي نسعى جميعنا للوصول إليها، ويدّعي البعض تفرده بامتلاكها في مشهد مُخزٍ يعكس اللغة الإقصائية الحمقاء، التي ترفض الاتصال بالآخر وتصادر كامل حقوقه شكلاً ومضموناً. وهو ما ترفضه أرضية اللغة المشتركة جملة وتفصيلاً.
إنه لا خيار أمامنا لننجح سوى البحث عن نقاط توافقية مشتركة لكل ما نختلف حوله، لنتمكن من استيعاب مفهوم (الاختلاف) بذكاء، ونتقبل برحابة صدر ووعي كبيرين الرأي والرأي الآخر.