والمسألة إذن ليست في جواز استخدام مستوى "العامية" من اللغة في سياق رسمي كالأخبار، أو الخطابات البيروقراطية، أو في تمثيلية أو مسرحية؛ إنها تتعدى إلى تعطيل الفكر العربي كل هذه القرون، وتغدو "العامية" ـ التي لاوجود لها في الواقع ـ فزاعةً ترهب كل من يحاول الاقتراب من محمياتٍ اكتسبت مع ترهل الزمن قداسةً ما أنزل الله بها من سلطان! وأعجب العجب أن يستخدم القرآن العظيم في تعطيل العقل وهو الذي لم يخاطب إلا "أولي الألباب"، وتصبح العامية تهمةً لمن يدعو إليها بأنه خطر على القرآن الذي نزل قبل تقعيد اللغة متحدياً فراعنة الكلام وسحرة البيان، وباللسان الذي كان يمثل ذروة ماتوصل إليه النمو والتطور اللغوي لديهم!
والسؤال الذي تحار "البلية" فيه هو: متى وكيف جرى تجميد الفكر بتحنيط اللغة؟، فالزميل "رائحة التفاح سيبويه" لم يكن سوى مسجل أمين للغة كانت حيةً تسعى في زمنه، استنبط قواعدها بمنهجٍ علمي دقيق بعد أن أمضى سنين في البادية (النسخة الأصلية للسان العربي)!، لكنه جوبه بخلافٍ صريح من علماء عصره، وصل إلى حد اتهامه بأنه سرق القواعد من أستاذه العبقري "الخليل بن أحمد"، وأن ما اعتمد عليه من شواهد لم يكن يمثل إلا شريحة صغيرة من الأمة العربية تتمثل في بادية "السماوة" العراقية آنذاك! بل صدق أو لاتصدق: أن "سيبويه" مات وهو في السادسة والثلاثين من عمره كمدا من انتصار "الكسائي" ـ صاحب إحدى القراءات القرآنية المعتمدة ـ عليه فيما عرف بـ"المسألة الزنبورية"، وهي ليست إلا إشارة إلى الخلاف الجذري الحاد الجاد بين المدرسة النحوية البصرية التي يمثلها "سيبويه"، والمدرسة الكوفية التي يمثلها "الكسائي"، الذي أدى إلى نشوء المدرسة "البغدادية" ثم "المصرية"، ثم "الأندلسية" ثم... "وفي عز الكلام/ سكت الكلام"!
وإذا بنا ـ وعلى مدى أجيال ـ في أمةٍ تحارب العقل بلا هوادة، وبأسلحةٍ تتناقض في كل شيء إلا في الغاية التي هي سحق أي محاولة للتجديد الفكري: فـ"ابن رشد" يتهم بالخروج عن الدين، و"الغزالي" يتهم بالصوفية والدروشة!
وكان لا بد أن يأتي الخلاص الطبيعي بالشعر، حيث يرصد الدكتور: سعد الصويان، في بحوثه الدؤوبة ـ الجديرة بأقصى درجات التقدير والاحترام ـ تطور اللغة العربية في الشعر المحكي "النبطي"، الذي ولد مختوماً بالدونية، وترعرع متهماً بالنقص، ونضج مداناً بمحاربة لغة القرآن! حتى الشعراء الشعبيون يلقي أحدهم أمسيته وكأنه يمارس فعلاً فاضحا وسط تصفيق هائل من جمهورٍ يكمل سهرته متطهراً مستغفراً من هذا "اللغو" الشعبي!
ولأننا لا نحترم لغتنا(هويتنا) ـ ناهيك أن نعتز بها ـ فها نحن أمة تشعر بالدونية والنقص ليس أمام "السوبر مان الأوروبي" حين تتحدث الإنجليزية مكسرةً قليلاً، بل أمام خدمها وسائقيها حين "تدشدش" لغتها كي يفهموها!