لا ينكر فرد واحد أن المعاهد العلمية المتخصصة بتدريس العلوم الشرعية قد أدت لعقود دورها التنويري كمنظومة تربوية كانت ذات يوم تتوسط عقد بدايات التعليم النظامي بهذا الوطن.
كثير من رجالات وكفاءات هذا البلد الكبرى في بدايات تكوُّن وتشكُّل منظومتنا الإدارية أيضاً كانت من ثمار هذه المعاهد التي اشتهرت فيما سبق بالصرامة في بناء المناهج وقوة التأهيل.
كل هذا لن يحذف السؤال المقابل: هل بقي للتعليم الديني المتخصص من دور يؤديه في جسد التعليم العام بالتحديد وخصوصاً مع الفوضى الطاغية في تنوع مصادر التثقيف والتعليم الديني؟ أكتب ناقداً للأمانة التي حمَّلني إياها أحد طلاب هذه المعاهد بالثالث الثانوي بالأمس وهو يقول اختصاراً لحديث طويل: رغم شعوري بالانتماء والحب القوي بعد ست سنوات من الدراسة إلا أنني أشعر أن أهلي دفعوني إلى مسارات ضيقة في الاختيار لعالمي المستقبلي، وسأحمل ملفي في العام القادم وأنا أعلم أن الأقسام الجامعية ستضعني في آخر الطابور ببضعة خيارات أعرف أن مخرجاتها مقفلة أمام الوظيفة وبعضها لعقد مضى من الزمن فكيف بما سيكون؟ أشعر أنني ضحية قرارعائلي اتخذه أهلي لمستقبلي وأنا طفل صغير بعد الابتدائية لا أعرف شيئاً عن مسالك الطرق، ولا يدرك أهلي أيضاً خيارات المستقبل. أشعر أنني ذهبت للمكان لأن أهلي ذات زمن مضى عليه ست سنين كانوا بحاجة المكافأة التي أقبضها من المعهد العلمي نهاية الشهر رغم أن المكافأة اليوم رهنت مستقبلي وهي لا تساوي حتى فاتورة جوالي بعد هذه الفترة.
وبالطبع فأنا أدرك بعض ردود الفعل المتشنجة التي لن تُقرأ في هذا المقال، ألم هذا الشاب وزملائه أمام العام القادم في ضيق الخيارات. ولكم مثلاً أن تقرأوا جملته الأخيرة وهو يقول إن معلماً واحداً في معهده العلمي الذي يدرس به لا يصطحب أولاده معه في الصباح إلى فصول المعهد. كلهم بلا استثناء اختاروا مسار التعليم العام لمستقبل أولادهم، رغم أن بينهم من سيرفض فكرة المقال.
يقاتلون لأفكار اختاروها وظيفة لهم ولأبناء غيرهم، ولكنها على الإطلاق ليست ضمن خياراتهم لأسرهم الخاصة.