كانت القاعدة التي ما أزال أرددها عن قناعة تامة هي أن العمل "السياسي" له شروطه الموضوعية، وأن المجال السياسي في أفكاره وتصوراته تطور تاريخياً بشكل ظاهر، وأن قيم التعامل السياسي في الدولة الحديثة فرضت قيماً جديدة على مفهوم: ساس/ يسوس/ سياسة، وهذا شيء طبيعي، إذ إن المفاهيم تتطور بناء على تطور الواقع الموضوعي الذي يحتضنها، والعملية في ذلك عملية تبادلية وجدلية.

العلمانية هي من أكثر الألفاظ تداولاً في مجال التناول في الفكر الإسلامي المعاصر وحركاته وعند منظريه، ودراسة العلمانية شابها كثير من الغموض، والخلل في الترجمة، والانتقاء في الرؤية وإهمال السياق التاريخي الذي ترحلت فيه اللفظة وممارساتها في أوروبا قبل أن تنتقل إلى العالم الإسلامي، غيرأن الشيء المؤكد أن الذي نقل إلى العالم الإسلامي هو أبشع صور العلمانية، وخاصة في دول كتركيا وتونس وغيرهما، فأخذت العلمانية الشمولية التي تحولت إلى شبه عقيدة بينما يدعي أصحابها العلمانيون العرب بأنها فكرة تقف في الحياد من الأفكار والأديان والأيديولوجيات.

شكلت "العلمانية" لب الصراع في الحركة الإسلامية المعاصرة، وعقدت المناظرات بين الإسلاميين والعلمانيين، وألفت الكتب العلمية، والرسائل الجامعية، والخطب المنبرية والتي كانت تحارب العلمانية وتقف في وجهها، بل وصل الأمر إلى أن أصبحت العلمانية / والحكم الإسلامي شعار المراحل الكبرى في مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة، وعليه بنيت المحاكم الفكرية والتصنيفات العقدية، وأصبحت المعركة معركة قدسية ضخمة، ولم يقف الأمر عند العلمانية في الشدة والعنف، بل تعدى الأمر – عند بعض الحركات – إلى طرد الحكم على غاياتها ووسائلها وذرائعها وكل ما يقترب منها، فأصبحت العلمانية هي رأس المشروع التغريبي الذي أخذت الحركة الإسلامية على عاتقها مواجهته وحربه حرباً شعواء لا هوادة فيها.

إنني حين أتكلم عن الحركة الإسلامية المعاصرة إنما أقصد الحركة المسيسة التي تشكلت على هدف سياسي ذي أرضية عقدية وفكرية إسلامية، وكانت قضية "الحاكمية" مرتكزاً للحركة، وعليها أقامت الأحكام على كل النظم القائمة وإسقاط شرعيتها، ولم تفكر يوماً بأنها سوف تهتف لنفس القيم والمعاني التي كانت في يوم من الأيام تحاربها وتحذر منها، وخاصة بعد موجة الثورات العربية التي قاربت المسافات جداً بين الطرح (الإسلامي) والرؤية المدنية (العلمانية) والتي تقيم الدولة على أساس المواطنة لا الديانة، وأصبح الإسـلاميون أشد حماية للديموقراطية التي كانت في يوم من الأيام وثناً يعبد من دون الله، بل وصل بعض متطرفيهم إلى أبعد ما يمكن من أفكار حين أصلوا قضية إرجاء سيادة الشريعة لتكون تالية لسيادة الناس، فانقلبت الصورة القديمة للحركة والتي تقوم على مبدأ "حاكمية الدين والشريعة"، لتحل محلها حاكمية "الشعب والجماهير" والذين هم أساس التشريع ومطلق السيادة والسلطة.

السؤال الملح في هذا السياق: هل كان الخلل لدى الجماعات الإسلامية السياسية في مفاهيمها العقدية نفسها؟ أم كان الخلل في تصورها عن العلمانية والديموقراطية؟ أم كان الأمر مبالغة في تصوير الرؤية الإسلامية السياسية؟ أم كان الأمر توظيفاً للمفاهيم العقدية لمزيد من الاستقطابات والحركة؟

إن القبول الملحوظ للأفكار السياسية الغربية وخاصة الديموقراطية والدولة المدنية بسلطاتها وغيرها قد يعد ممارسة سياسية في ترتيبات أولويات المرحلة، وقد يكون تكتيكاً تقتضيه طبيعة الـظروف المعاصرة، لكن الأمر الذي يبعد هذا كله أن القضية ليست فقط في "ممارسة" منفصلة عن التأصيل الفكري والعقدي، وانقـلاباً على المـفاهيم السابقة، بل هي ترويج لعدم التعارض بين قيم الشريعة وقضايا السياسة المعاصرة، وهذا وإن كان يعده البعض تطوراً في الفكر وترحلاً إلى الأمام، إلا أنه كذلك يكشف مدى "البراجماتية" التي تحيط ببعض الحركات والتي تتخذ من المبـادئ الـشرعية سبيلاً لتحقيق مآرب سياسية، ويؤدي بالوقت نفسه إلى عدم الثقة بالمبادئ نفسها التي يضعها أصحابها في موضع "الثوابت" التي لا تقبل المساس ولا التغير، ويشكل هذا صدمة للجيل المبادئي الذي يكتشف في ساعة أنه مطية لتحقيق أهداف خفية مغلفة بالقضايا الفكرية والعقدية والتحررية.

إن الخطورة في كل ما مضى تكمن في توظيف الديني في خدمة الطموح السياسي، ثم تتكشف الأمور فإذا هذه الأحزاب المبادئية ما هي إلا مثل غيرها من الأحزاب التي تستخـدم المراوحة السياسية والتنازلات حتى في جانب العقيدة، بل وتـزايد على تصرفات من كان يعدون من طواغيت الأرض، وتقدم للأعداء الذين قامت على حربهم تنـازلات لم يفعلها أشد أعدائهم ضراوة، ولا بأس بأن يكون عند الإنسان طموح سياسي يقوم على قواعد اللعبـة السيـاسة شريطة أن لا يستخدم الدين في الوصول إلى هذا الطموح ثم يتم الانقلاب عليه، فتتشوه السياسة ويشوه الدين، ويصاب الجيل بنكسة فكرية قد تؤدي به إلى عدم الثقة بالدين نفسه والذي وظف لهذا الطموح.